التفاسير

< >
عرض

بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
٢

خواطر محمد متولي الشعراوي

والعجب لا يكون إلا من شيء غير معتاد، والنفس لا تهتدي إلى سببه، ولا إلى علَّته مثل الساحر نعجب لما يفعل لأننا لا نفهمه، والحديث هنا عن الكفار المعاصرين لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أوضح القرآن هذه المسالة وشرحها في موضع آخر هو قوله تعالى:
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. { { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام: 8-9].
إذن: عجبهم أو اعتراضهم ليس على القرآن، إنما على محمد صلى الله عليه وسلم، كيف ينزل عليه القرآن وهو من عامة الناس، ولماذا لم ينزل على أحد عظماء القوم ثم أتوا بشبهة أخرى، لماذا لم ينزل على ملَك.
وقد ردّ القرآن عليهم وبيَّن لهم هذه الشبهة، فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول وقدوة، والقدوة لا تتم إلا إذا كان الرسولُ من جنس المرسل إليهم، وإلا كيف نقتدي بملك وله طبيعة غير طبيعتنا، وقدرة غير قدرتنا.
ولو أمرنا بعمل ما كان من حقنا أنْ نقول له: لا نستطيع أنْ نفعل مثلك، لأنك ملَك تقدر على ما لا نقدر عليه، فلا تتم الأُسْوة إذن.
فمن عظمة الرسالة أنْ يكون الرسولُ منكم، لذلك منَّ الله عليهم بذلك، فقال:
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ .. } [التوبة: 128] أي: جنسكم بل من قومكم، ومن أقرب الناس لكم، وأنتم تعرفون صدقه وأمانته حتى قبل الرسالة، وشهدتم له بذلك.
وقوله تعالى: { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2].
يعني: أن الكافرين هم الذين تعجبوا من اختيار محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة، إذن: غير الكافرين لم يتعجبوا من ذلك، وإذا كان القرآن نزل على مدى ثلاث عشرة سنة، فمن الناس مَنْ آمن بمحمد وصدَّقه من أول آية نزلتْ عليه. وقال: نزل عليّ اليوم كذا وكذا.
بل إن سيدنا أبا بكر صدَّق رسول الله وآمن به بمجرد أنْ قال: إني رسول الله دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟
فماضيه في قومه يُؤهله لهذه المكانة، ولم لا يصدقه وهو الصادق الذي ما جُرّب عليه كذبٌ قط، والذي لا يكذب على الخَلْق أحرى ألاَّ يكذب على الخالق.
كذلك صدّقه في خبر الإسراء والمعراج ولم يناقش مثل غيره، بل قال عن رسول الله: إنْ قال فقد صدق، لقد أخذها بالعقل، وبما لديه من مقدمات من سيرة رسول الله.
لذلك كلمة (محمد) ذاتها دليل على صدقه، فقوله تعالى:
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] محمد مبتدأ أخبر عنه بأنه رسول الله، ومحمد بمعنى محمود يحمده الناس ويثنون عليه.
إذن: هو من بدايته ونشأته مُعَدٌّ لهذه المهمة، لذلك ما جرَّبوا عليه كذباً أبداً، ولا شيئاً مما كان يفعله أترابه في الجاهلية، فكأنه يقول لهم: محمد هذا الذي تعرفونه، وتعرفون ماضيه وسيرته فيكم هو رسول الله، وكأن علة الإيمان بالرسول أنه محمد.
وسبق أن بيَّنا كيف عصمه الله من الزلل؟ وكيف عصمه من انكشاف عورته؟ لذلك ورد على لسانه صلى الله عليه وسلم وهو يجادل قومه:
{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16].
يعني: أنتم تعرفون عني كل شيء، تعرفون أنِّي لا أكذب، ولم يسبق لي أنْ وقفت خطيباً فيكم ولا شاعراً. إذن: لماذا تُكذِّبونني؟.
وكلمة { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] ليستْ تكراراً للتعجب في { بَلْ عَجِبُوۤاْ .. } [ق: 2] بل عجيبٌ بالذي قيل، عجيبٌ قالها الكافرون، وقد شرحها القرآن في قوله تعالى:
{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94].
فردَّ عليهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريده مَلَكاً، فقال لهم: إذا كان مَلَكاً فسوف يأتيكم في صورة بشر، إذن: ستظل الشبهة كما هي.