التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦

خواطر محمد متولي الشعراوي

(كم) هنا خبرية تفيد الكثرة، أي كثيراً ما أهلكنا { قَبْلَهُمْ .. } [ق: 36] أي: قبل قومك قريش { مِّن قَرْنٍ .. } [ق: 36] هم الجماعة الذين عاشوا في زمن محدود، وقدَّروه بمائة عام.
وقد يزيد القرن في المعنى عن هذا إذا ارتبط بنبي مثل قوم نوح عليه السلام، فقد اقترنوا جميعاً في نبوته التي استمرت ألف سنة إلا خمسين عاماً، فالقرن من الاقتران، سواء أكان الاقتران في زمن ملِك أو نبي أو حدث.
وفي آية أخرى بيَّن الحق سبحانه كيف أهلك الأمم المكذبة بهم قبلهم، فقال سبحانه:
{ { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا .. } [العنكبوت: 40].
وكل هؤلاء كانوا أشد من قريش قوة وبطشاً، وأين هم من إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد؟ وأين هم من فرعون ذي الأوتاد.
{ فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ .. } [ق: 36] تنقلوا فيها وسافروا خلالها، والتنقُّل دليل القوة والتمكين، وأنهم غير مشغولين بأمور حياتهم.
وقد بيَّن الحق سبحانه أن الانتقال والسير في الأرض قد يكون للاعتبار كما جاء في قوله سبحانه
{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ .. } [النمل: 69] وقد يكون لطلب الرزق والسياحة كما في قوله تعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ .. } [الأنعام: 11].
إذن: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ .. } [ق: 36] ساروا خلالها للمتعة وللانتفاع، حيث لم يكتفوا بما في أوطانهم، بل جابوا أوطاناً أخرى، ولا يفعل ذلك إلى القوي، أما الضعيف فلا يبرح مكانه ويرضى بالقليل.
وفي موضع آخر قال عنهم
{ وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا .. } [الروم: 9].
وكلمة نقب تدل على البحث عن غير الظاهر عن المستور في باطن الأرض. إذن: لم يكتفوا بالظاهر من النعم وبحثوا عن المستور منها.
وقوله: { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } [ق: 36] أي: ملجأ يلجأون إليه ويحميهم من العذاب، والمعنى أن هؤلاء مع ما هم فيه من القوة والتمكين والسير في جنبات الأرض لما نزل بهم العذاب لم يجدوا لهم ملجأ يحميهم، ولا مأوى يدفع عنهم عذاب الله.
وكلمة { مَّحِيصٍ } [ق: 36] من حاص فهو حايص. نقولها حتى في العامية يعني: حائر يذهب إلى هنا، ويذهب إلى هناك، فلا يغيثه أحد، فلا مهرب ولا مفرّ.
وجاء بالمعنى المراد في صيغة الاستفهام { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } [ق: 36] لتجيب أنت وتقر بالواقع، هل وجدوا ملجأ يلجأون إليه من العذاب؟ والجواب لا.
وهذه الآية وردت لتسلية سيدنا رسول الله والتخفيف عنه لما يلاقيه من عنت قومه وعنادهم، كأنه تعالى يقول لنبيه: لا تحزن يا محمد وخُذْ أسوة بإخوانك من الرسل السابقين، فالغلبة لك في نهاية الأمر.