التفاسير

< >
عرض

قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
٤

خواطر محمد متولي الشعراوي

يعني: لِمَ تعجبون وتنكرون البعث بعد الموت، والله علم مُكوِّناتكم وجزئيات وعناصر هذا الجسم وكمية كل عنصر منها، ويعلم ما تأخذه الأرض منكم وقادر على جمعه وإعادته كخَلْقه الأول هو هو، وإن كانت العناصر التي خرجتْ منه لا تزال خارجة، إذن: نحن نختلف باختلاف عناصر التكوين، لا باختلاف مجموع العناصر.
ومعنى { قَدْ عَلِمْنَا .. } [ق: 4] أي: أن هذه العملية تقوم على علم وعلى دراية لا مجرد كلام، ثم تستند إلى توثيق آخر: { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4] فهذا العلم مُؤيّد بكتاب مسجَّل مسطور مشهود يحصى فيه كل شيء.
فإنْ قلتَ: فما فائدة الكتاب بعد العلم؟ نقول: علم الله واسع، وهو صفة من صفاته تعالى، وهو سبحانه لا ينسى، لكن يكتب في كتاب ليكون الكتابُ حجةً على مَنْ أنكر، كما في مسألة الحسنات والسيئات.
فالله تعالى يعلمها ويُحصيها، ولا يحتاج مَنْ يُذكِّره بها، لكن يكتبها للعبد لتكون حجة عليه يوم يقول له:
{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14].
وكلمة { حَفِيظٌ } [ق: 4] مبالغة على وزن فعيل، وهي هنا بمعنى فاعل. أي: حافظ لكل شيء، مسجل لكل صغيرة وكبيرة، وهو أيضاً محفوظ فلا تمتد إليه يد فتختلس منه شيئاً، أو تغير فيه شيئاً.
لذلك قال:
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79].
وقال:
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
والذي يحاول التشكيك في البعث أو نَقْضه هم الناس المستهترون المسرفون على أنفسهم، فهؤلاء لو صَحَّ البعثُ وصَحَّ الحساب والجزاء، فستكون العاقبة بالنسبة لهم سوداء، فحظهم إذن أن يُشككوا في البعث، وأنْ يُكذِّبوه، بل الدين كله في نظرهم كذب.
وتأمل مثلاً إفلاسهم في الحجة حين يقولون في تكذيبهم بالبعث: لو أن رجلاً مات وزُرعت فوق بقاياه شجرة تفاح مثلاً، فسوف تتحلل عناصره وتتغذّى منها هذه الشجرة، فسوف يأتي مَنْ يأكل منها.
وبذلك تصله بعض عناصر الأول، فإذا مات الثاني فكيف تُبعث هذه العناصر من الأول أم من الثاني؟
وهذه شبهة واهية، وللرد عليها نقول: لو أن رجلاً وزنه مثلاً مائة كيلو، وأصابه مرض أنقص من وزنه النصف حتى صار شبحاً، ثم مَنَّ الله عليه بالشفاء حتى استعاد صحته ووزنه الأول، فهل عادت إليه نفس عناصره الأولى؟
أبداً، لأنه يأكل عناصر أخرى غير التي فارقته لكن تبقى الشخصية وتبقى المعنويات المميزة لها، وحين تعود تعود كما كانت هي هي.
إذن: المسألة ليست مسألة نفس العناصر، إنما مسألة إعادة شخص بعينه، وما دام الحق سبحانه قال: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ .. } [ق: 4] فهو سبحانه قادر على جمعها وتكوينها من جديد، بقوله تعالى: كُنْ فيكون.