التفاسير

< >
عرض

بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ
٥

خواطر محمد متولي الشعراوي

فهمنا من قولهم: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] أنهم مُنكرون للبعث لا يُصدِّقون أنهم سيُبعثون بعد الموت، وهذا الإنكار لا يغير من الواقع شيئاً، فالبعث حَقّ وسيحدث لكنهم يكذبون به لأنه ليس في صالحهم.
لذلك قال هنا: { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ .. } [ق: 5] والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً مهما طرأتْ عليه من أحداث، فسوف تمضي الأحداث والوقائع ويبقى الحق ثابتاً.
والحق سبحانه أعطانا مثلاً محسوساً للحق وللباطل، فقال سبحانه:
{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17].
كذلك سيذهب إنكارهم وتكذيبهم وتبقى الحقيقة ويبقى الحق ثابتاً لا يتغير، وفي القرآن آيات كثيرة تحمل هذا المعنى، اقرأ:
{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا .. } [التوبة: 40] فـ (كلمة) الأولى مفعول به، أما الأخرى فهي مبتدأ لإنشاء كلام جديد غير معطوف على الأول.
فالأولى مجعولة، والأخرى أمر ثابت أزلاً، جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله عليا بداية، يعني: لم تكُنْ سُفلى فجعلها عليا، هذا يعني أن الحق شيء ثابت أزلاً وباقٍ لا يتغير.
وقوله تعالى: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] معنى مريج، أي: مختلط، فهم مذبذبون مترددون، مرة: تعجبوا وقالوا
{ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] ومرة أنكروا، ومرة كذَّبوا، فالأمر بالنسبة لهم مختلط من قولهم: مرج الخاتم في الإصبع إذا كان واسعاً سهل الحركة.
والدليل على أنهم في أمر مريج أنهم استقبلوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الاتهامات، كلما خاب سعيهم في واحدة قالوا بالأخرى، لأن القرآن لهم بالمرصاد يرد كيدهم عن رسول الله.
لذلك سمعناهم يقولون: ساحر، شاعر، مجنون، كاهن.
إذن: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] لا يدرون ماذا يقولون، فكلما قالوا تهمة كشف القرآن كذبها، فالحق شيء واحد، لذلك نراه ثابتاً، أما الباطل فمتعدد لذلك لا يثبت.
وهذه المسألة نشاهدها في الشهادة أمام القاضي، فشاهد الحق يأتي قوله واحداً لا يتغير لأنه يصف واقعاً، أما شاهد الزور فيغير ولا يصمد أمام محاورات القاضي، وسرعان ما يقع وينكشف كذبه، لأنه لا يصف واقعاً، إنما يؤلف الأحداث من عنده.
ثم ينقل الحق سبحانه وتعالى مجالَ الحديث إلى الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله تعالى وتمسّ مسألة العقيدة، فحين نُصحح لهؤلاء عقيدتهم ونعطفهم إلى الإيمان بالله سيفكرون في رسالة محمد، ويهتدون إلى الحق.
لذلك ترك الحديث عن تكذيبهم لرسول الله وللبعث، إلى الحديث عن الآيات الكونية في السماوات والأرض.