التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
٦
وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٧
تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
٨

خواطر محمد متولي الشعراوي

الاستفهام في { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ .. } [ق: 6] غرضه الحثّ على النظر والتأمل في خَلْق السماوات وما فيها من آيات ومعجزات، لأن هذه الآيات هي دليل القدرة، وكلمة { بَنَيْنَاهَا .. } [ق: 6] دلتْ على أن السماء على اتساعها مبنية، ومع اتساع هذا البناء لا نجد له عمداً ترفعه.
لذلك قال تعالى في آية أخرى:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا .. } [الرعد: 2] إذن: طالما ليس لها عمَد تحملها، فهي ممسوكه من أعلى، ولا يمسك هذه السماء إلا قوة عظمى هي قدرة الله { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ .. } [فاطر: 41].
وهذه الفكرة رأيناها في بناء الكباري الطويلة التي ليس لها قواعد وأعمدة تحملها، فيعلقونها من أعلى، وتُسمّى الكباري المعلّقة.
والحق سبحانه وتعالى يُقرِّب لنا هذه المسألة بقوله:
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } [الملك: 19] فكما يمسك الطير في السماء يمسك السماوات أنْ تقع على الأرض إلا بإذنه.
ثم لم يقف الأمر عند بناء السماء، بل { وَزَيَّنَّاهَا .. } [ق: 6] بما فيها من الكواكب والنجوم التي تُضيء { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ق: 6] يعني: ليس فيها شقوق ولا فتوق، بل نراها مستوية ملساء، انظر إليها وهي صافية تجد روعة الألوان.
وبعد أن حدَّثنا عن الآيات العليا في السماء يُحدِّثنا عن آياته سبحانه في الأرض، وإذا كانت الآيات في السماء بعيدة عنا، فالآيات في الأرض قريبة منا وتحت إدراكاتنا.
{ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا .. } [ق: 7] بسطناها وجعلناها مستوية صالحة للمعيشة، والمد هو البسط، والشيء المنبسط الممتد ليس له نهاية، وهذه صفة الأرض، فأينما سرتَ تجدها أمامك منبسطة ليس لها حافة تنتهي عندها، وهذا الامتداد فسَّر لنا كروية الأرض.
{ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ .. } [ق: 7] هي الجبال الثابتة التي تثبت الأرض، فلا تميد، كما قال سبحانه
{ وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [النبأ: 7] أي: هي الأرض مثل الأوتاد للخيمة { وَأَنبَتْنَا فِيهَا .. } [ق: 7] أي: في الأرض { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ق: 7] من النبات والزوج أي الصنف، وهو فرد معه مثله.
فالنبات لكي يعطي إنتاجاً لا بدَّ له من زوجين ذكر وأنثى، كما في الإنسان والحيوان، لذلك قال تعالى:
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ .. } [الذاريات: 49] لأن التناسل لا يتم إلا بهما.
ومعلوم أن التلقيح في النبات يتم بواسطة الفراشات والحشرات الطائرة التي تنقل حبوب اللقاح من عنصر الذكورة لعنصر الأنوثة، لذلك لما كثُرتْ الحشرات في أحد البساتين وضعوا لها المبيد الحشري فماتت، فلاحظوا أن الأشجار في البستان لم تزهر ولم تثمر، لماذا؟ لأن الفراشات والحشرات التي تلقح الزرع ماتت.
وقد لاحظوا أن الحشرات تتلوَّن بلون الزهرة التي تلقحها، بحيث يكون بينهما توافق بديع في الألوان، فلا تكاد ترى الفراشة وهي على الزهرة، وهذه الألوان في تناسقها مظهر من مظاهر الإبداع في الخلق.
وقوله: { بَهِيجٍ } [ق: 7] أي: جميل حسن المظهر.
وقد فهم العلماء من قوله تعالى: { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ .. } [ق: 7] أن الأرض غير ثابتة، وأنها تدور، فلو كانت الأرضُ مخلوقةً على هيئة الثبات ما احتاجتْ إلى الجبال الرواسي لتثبتها فلا تميل بأهلها.
وهذه كلها كانت من غيب السماوات والأرض كشفه الله لنا بتقدّم العلوم وتطور الحضارات، لذلك نقرأ مثلا:
{ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ .. } [النمل: 88] نعم السحاب يمر ويتحرك بحركة الهواء، فكيف تتحرك الجبال وهي راسية مستقرة مُثبتة على سطح الأرض؟
إذن: الجبال لا تتحرك إلا مع حركة الأرض، ولأنك ستتعجب من هذه الحقيقة، قال الحق بعدها
{ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ .. } [النمل: 88] فما دام الفعل لله والصنعة لله، فلا تتعجب ولا تستبعد الأمر.
ثم يقول سبحانه: { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ .. } [ق: 8] أي: أن هذه الآيات الكونية في السماوات وفي الأرض تعطي بصيرة للناس، وتُذكِّرهم بقدرة الخالق سبحانه ليتفكروا في خَلْق هذا الكون وما فيه من هندسة وإبداع.
والتبصرة هي الآية الثابتة، و{ وَذِكْرَىٰ .. } [ق: 8] هي الظاهرة تأتي وتتغير، مثل الأرض تكون جرداء قاحلة، فإذا نزل عليها المطر اخضرتْ.
وقوله: { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ق: 8] كثير الرجوع إلى الله بالتوبة، ويأخذ من آيات الله في الكون دليلاً على قدرته تعالى، فيذعن لها ويؤمن بها.