التفاسير

< >
عرض

وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ
٩
وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
١٠

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله: { وَنَزَّلْنَا .. } [ق: 9] مادة نزل أتت بلفظ أنزلنا ونزَّلنا، أنزلنا للشيء ينزل جملة واحدة، كما في قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] أي: أنزلناه في هذه الليلة جملة، ثم نزل به الروح الأمين مُتفرقاً حسب الأحداث، فقال: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ .. } [الشعراء: 293-194].
كذلك الماء لا ينزل من السماء جملة واحدة، إنما ينزل متتابعاً متفرقاً، فقال: { وَنَزَّلْنَا .. } [ق: 9] وقوله: { مِنَ ٱلسَّمَآءِ .. } [ق: 9] أي: من جهة السماء، لأن المطر في السحاب وأصله من الماء المالح في الأرض، حيث تتم عملية البخر ويتكثف بخار الماء في السحاب فيتكوَّن الماء الذي يسوقه الله تعالى بقوة الهواء حيث ينزل حينما يصادف الأماكن الباردة.
وقال عنه { مَآءً مُّبَٰرَكاً .. } [ق: 9] لأن الله بارك فيه وجعله صالحاً للشرب ولسقي النبات، فهو عذْب سائغٌ للشاربين.
وساعة ينزل هذا الماء المبارك على الأرض تهتز الأرض وتُخرج ما فيها من نبات { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ .. } [ق: 9] جمع جنة، وهي المكان المليء بالأشجار التي تجنُّ مَنْ يسير فيها. أي: تستره فسُميتْ جنة، ومنه قوله تعالى:
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ .. } [الأنعام: 76] يعني: ستره بظلمته.
ومعنى { وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } [ق: 9] أي: الحب الذي يُحصد مثل القمح والشعير والذرة والأرز، وهو يُزرع كل عام ويُحصد ليزرع من جديد، أما الجنات فهي الشجر الدائم الذي يعمر لعدة سنوات ويثمر، فنجمع منه الثمار فقط وتبقى الشجرة كما هي للعام التالي.
وقوله: { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ .. } [ق: 10] عاليات مرتفعات، والعلو في النخل من عجائب الخَلْق ودقة الإبداع، لأننا رأينا العواصف تقتلع بعض الأشجار الضخمة، لكن لم نَرَ نخلة وقعتْ من العاصفة فجأة كما تقع الشجرة. لكنْ إذا ضعفت النخلة نراها تميل شيئاً فشيئاً على فترات حتى تصل إلى الأرض، ففيها رِفْعة، وفيها شموخ.
وذكر الحق سبحانه النخل بعد شجر الجنات وحبّ الحصيد لأن النخل يجمع الصفتين معاً لأن يعطي ثماره مثل الشجر كل عام، لكن إذا لم يلقح جاءت الثمار كما يقولون: صيّص يعني بلح لا ينفع ولا فائدة فيه فيُقطع ويُرمى.
ومعنى { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ق: 10] الطلع كوز أخضر يتفتح وتخرج منه السباطة، والسُّباطة هذه تحتوي على الشماريخ التي تحمل حبات البلح، ومن عجائب الخَلْق أنك ترى هذه الحبات مُنضدّة، يعني: مرصوصة بنظام دقيق في الشمروخ الذي يحملها، فلا تجد مثلاً بلحة أمام الأخرى، لكن موزَّعة على الشمروخ بالتساوي على شكل رِجْل غراب كما يقولون.
إذن: الحق سبحانه أعطانا طرفاً من آياته في السماوات والأرض، وقلنا: أن السماوات والأرض ظرف لما فيهما، ومع عِظَم خَلْق السماوات والأرض، إلا أن المظروف فيهما أعظم.
والإنسان في هذه الظرفية له خصوصية لأنه خليفة الله في الأرض، فالناس باعتبار أنهم مظروف ليس لأحد منهم حَظٌّ أوفر من الآخر، فهم في هذه الظرفية سواء، لأن الظرف مهمته حماية المظروف فيه فيستوي في الحماية ورقة بخمسين مع الورقة بمائة، ويستوي الذهب والفضة والحديد، فالصيانة للجميع وإنْ كان المصون مختلفاً.
كذلك الإنسان له حظه من الصيانة مع أن قيمة الناس تختلف، وهذا الاختلاف جاء لحكمة أرادها الحق سبحانه لصالح المجتمع كله:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [الزخرف: 32].
فالناس منهم القوي والضعيف، والغني والفقير، العالم والجاهل، والذكي والغبي يتم بينهم التكامل في حركة الحياة، وقلنا: ماذا لو أن الناس جميعاً تخرجوا في الجامعة؟ فمَنْ إذنْ سيقوم بالأعمال الدنيا، إذن: لابدّ أنْ يوجد ناس للقمة، وناس دونهم للخدمة، وإلا ما استقامتْ حركة الحياة.
ومع هذا الاختلاف في القيمة من حيث عمل كل إنسان وإجادته لعمله يبقى أننا جميعاً عيالُ الله وعبيده، ليس منا من هو ابن الله، فليلزم كلٌّ منا أدبه وحدوده، فكلٌّ منا مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر، يعني (مفيش حد أحسن من حد).
يقول الحق سبحانه:
{ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ ... }.