التفاسير

< >
عرض

وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
-الذاريات

خواطر محمد متولي الشعراوي

الأرض هي الأرض التي نعيش عليها وهي مفردة، وفي الحقيقة هى أراضي متعددة، كما قال تعالى: { خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ .. } [الطلاق: 12] فهي إذن سبع أرْضين.
قالوا: لأن الأرض بيئات متعددة من حيث الطقس حرارة وبرودة، ومن حيث التربة وما تحويه من عناصر وما تُخرجه من خيرات. ومن هنا تعددت الأراضي، لذلك العلماء يقولون: هذا حزام القمح مثلاً، وهذا حزام الموز، وهذا حزام كذا.
فالحق سبحانه أعطى كل أرض ما يصلحها لنبات معين يناسب السكان عليها، والعيب أننا ننقل إنتاج أرض إلى أرض أخرى لا يصلح لها، ولو صلح للسكان هنا لكان موجوداً عندهم.
لذلك نجد النبات في غير أرضه تصيبه الآفات، فلو نظرنا مثلاً إلى حزام الموز تجده في أماكنه قوياً لا تصيبه آفة ولا عطب، فإذا نقلته إلى غير أرضه كثرتْ فيه الآفات وأصابه العطب.
كأن الخالق سبحانه يقول لنا: هذا ليس مخلوقاً لبيئتك، بل له بيئته التي يجود فيها، حيث تتوفر له مقومات نموه.
والآيات جمع آية، وهي العلامة الدالة على قدرة الخالق سبحانه، وأول الآيات في الأرض نلحظها في توزيع رقعة الأرض بين الماء واليابسة، الماء منه عَذْب فراتٌ، ومنه ملح أُجَاج.
العذب نشرب منه، ونسقي الزرع والدواب، والمالح نأخذ منه الأسماك
{ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا .. } [فاطر: 12].
والأرض فيها الخصب السهل الصالح للزراعة، ومنه الصحاري والجبال، وفي كل منها الخيرات التي تناسبه. ومن الآيات في الأرض أن الماء ثلاثة أرباع اليابسة، والحكمة من ذلك أنْ تتسع رقعة الماء، وتتسع رقعة البخر التي تعطينا بعد ذلك المطر الذي يكفي للشرب وللزراعة.
إذن: الماء المالح هو مخزن الماء في الأرض، وجعله الله مالحاً ليحفظه من العطب ويصونه من التغيُّر، يقول تعالى:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57].
ومن الآيات في الأرض أن مجاري المياة العذبة أعلى مستوى من مجاري المياه المالحة، ولو أن المالح كان أعلى لأفسد المياة العذبة ولمَا انتفعنا بها، يقول تعالى:
{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 20].
ومن عجائب القدرة في خَلْق النبات أنْ تجد أجود أنواع النخيل والتين مثلاً على الشواطىء المالحة كما في العريش وغيرها، وهذه من طلاقة القدرة التي لا تخضع للأسباب، إنما تفعل ما تريد، فمن الماء المالح نأكل أشهى وأحلى الثمار.
ومن الآيات في الأرض الجبال:
{ وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] والجبال كما قلنا هي مخازن الخصب، ومخازن القوت، ومخازن للخيرات الكثيرة من المعادن والأحجار الكريمة.
وسبق أن أوضحنا أن الحق سبحانه نثر الخيرات ووزّعها على الأرض كلها، بحيث إذا أخذنا من الأرض قطاعاً من محيط الأرض إلى مركزها لوجدنا فيه من الخيرات ما يساوي القطاع الآخر، فهذا به معادن، وهذا بترول، وهذا مزروعات، وهكذا.
ومن الآيات في الأرض أنْ تجد التربة واحدة وتُسقى بالماء الواحد، ومع ذلك تعطي مختلف الثمار ومختلف الطعوم
{ وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4].
نعم يعقلون قدرة الله في الخلق، وأن هذه الآيات مخلوقة لقادر حكيم قيوم.
وهنا قال { آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] أي: الذين يوقنون بذلك ويؤمنون به، فأعظم درجات العلم هي العلوم الكونية التي تبحث في الكون، وتستدل بآياته على قدرة الله.
اقرأ مثلاً:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ .. } [فاطر: 27-28].
لاحظ أنه تعالى لم يذكر هنا حكماً شرعياً يتعلق بصوم ولا صلاة ولا زكاة، إذن: المراد بالعلماء هنا علماء الطبيعة والكونيات الذين يبحثون فب النبات والحيوان والإنسان والجماد، ويستدلون بالقدرة على القادر سبحانه، ويأخذون بأيدي الخلق إلى ساحة الإيمان بالخالق، وهذه حقيقة تنفعهم في الدنيا وفي الآخرة.
والمتأمل لقوله تعالى: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] يفهم منه أن الإنسان إذا نظر في الكون من حوله ويستدل منه على وجود الخالق سبحانه، لذلك أوقع الكافرين في الفخ عندما سألهم:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزخرف: 87] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 38].
نعم لم يقولوا غير ذلك لأنها مسألة واضحة وضوحَ الشمس ولم يدعها أحد لنفسه، وكيف يدعيها وقد خُلق رضيعاً لا يقدر على شيء فكيف يقول: خلقتُ نفسي، وقد طرأ على الكون كما هو فكيف يدعي أنه خلقه؟
وقوله تعالى: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] أي: كما أن في الأرض آيات كونية دالة على قدرة الله، كذلك في أنفسكم آيات، فإذا لم تصل إلى آيات الكون من حولك فانظر في نفسك التي بين جنبيك.
وقال تعالى: { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] لأن آيات الكون من حولك إنْ بعُدَتْ عليك فإن آيات نفسك قريبة منك، وأوْلَى بالنظر والتأمل.
والآيات في النفس كثيرة, خُذْ مثلاً درجة حرارة الجسم تجدها واحدة هي 37 ْ لمن يعيش عند القطب المتجمد، ولمَنْ يعيش عند خط الاستواء، ولا تستقيم حركة الأعضاء والجوارح إلا عند هذه الدرجة، ولو زادت لاختلَّ نظام الجسم كله واضطربت حركته.
أما في داخل الجسم فكل جهاز من أجهزته له درجة حرارة تناسبه دون أنْ يحدث استطراق حراري في الجسم الواحد كما نعلم، فإذا كانت الحرارة العامة في الجسم 37 ْ فإن حرارة العين مثلاً تقف عند تسع درجات لا تزيد عنها، ولو زادت عن ذلك لانفقأت العين.
أما الكبد فلا يؤدي دروه في الجسم إلا عند أربعين درجة، والعجيب أن هذا التفاوت داخل جلد واحد وجسم واحد، فتبارك الله أحسن الخالقين.
كذلك لو تأملتَ الدم الذي يجري في العروق، التنفس، القلب، المخ، العظام كل شيء في جسمك فيه آية، بل آيات حين تتأملها تقول: سبحان الخالق المبدع، سبحانه مَنْ له طلاقة القدرة.
إذن: لا حجة لمَنْ لم يؤمن بعد ما رآه من الآيات في نفسه وفي الكون من حوله.