التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٣١
قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٣٢
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ
٣٣
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
٣٤
-الذاريات

خواطر محمد متولي الشعراوي

{ قَالَ .. } [الذاريات: 31] أي: سيدنا إبراهيم عليه السلام للقوم الذين دخلوا عليه { فَمَا خَطْبُكُمْ .. } [الذاريات: 31] يعني: ما شأنكم؟ وما حكايتكم؟ وما الأمر الخطير الذي جئتم من أجله؟ كلمة الخطب تدل على الأمر الخطير وحدث هام أراد أنْ يعرف ما هو وهل هو متعلق به أم بغيره؟
وهذا الكلمة جاءت بهذا المعنى أيضاً في قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف:
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ .. } [يوسف: 51] أي: الأمر العجيب الذي حملكن على هذا الفعل.
وقالها سيدنا موسى لما رأى ابنتيْ سيدنا شعيب قد خرجتا لسَقْي الغنم
{ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا .. } [القصص: 23] أي: ما الذي ألجأكنَّ للخروج، فكأنه أمر عجيب غير عادي. إذن: هذه الكلمة وُضِعت للأمر الخطير الذي يدعو إلى الدهشة والتعجب.
فردَّ الملائكة { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الذاريات: 32] وهنا اطمأن سيدنا إبراهيم، وعرف أن الأمر لا يتعلق به، والقوم المجرمون في هذا الوقت هم قوم لوط، ثم بيَّنوا مهمتهم { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات: 33].
ومفهوم أن الحجارة تختلف عن الطين، الحجارة فيها صلابة وقساوة تختلف قوة وصلابة حسب نوع الحجر بداية من المرمر، ثم الجرانيت والرخام والجير.
فكيف تكون الحجارة من طين، وهما وصفان في الظاهر متناقضان؟ قالوا: هو طين أحْمِي عليه في النار حتى صار صَلْباً قاسياً، كما نفعل مثلاً في صناعة الفخار.
ومعنى { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] أي: مُعلَّمة، فكلُّ حجر منها يحمل اسم صاحبه وعنوانه، فهو مُخصص له لا لغيره ومُوجَّه إليه لا يخطئه.
وقوله { عِندَ رَبِّكَ .. } [الذاريات: 34] دلّ على أنها نزلتْ من السماء وليستْ من حجارة الأرض، وأنها مُعلَّمة من عند الله جاءت هكذا جاهزة، ونحن مهمتنا أنْ نرميهم بها بأسماء أصحابها، فلا يختلط حجر بحجر.
ومعنى { لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] المسرف هو الذي تجاوز الحدَّ في المعصية فكأن هناك حدوداً للأمور، وحدوداً للحلال وحدوداً للحرام، وقد بيَّنها الحق سبحانه، وعلَّمنا كيف نقف عند هذه الحدود، فقال تعالى في الحلال
{ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا .. } [البقرة: 229].
وقال في الحرام
{ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا .. } [البقرة: 187] أي: قِفْ عند حدود الحلال لا تتجاوزه إلى غيره، أما الحرام فإياك أنْ تقربه. احذر مجرد الاقتراب منه، لأنك لو اقتربتَ منه تُوشك أنْ تقع فيه فهي حماية لك.
كما قال سبحانه لآدم
{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ .. } [البقرة: 35] وقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ .. } [الإسراء: 32] ففي الحرام لا يمنعنا من الفعل، بل يمنعنا من الاقتراب من أسبابه.
ففي أيِّ شيء أسرف هؤلاء المجرمون المسرفون؟ أسرفوا في فعل مُحرَّم يناقض الطبيعة النقية التي خلقها الله؛ لأن الله تعالى لما أراد أنْ يجعل خليفة في الأرض خلق آدم وخلق معه زوجه ليتم التكاثر، وتأتي القبائل التي تعمر الأرض، لأن عمارتها لا تقوم بواحد أو اثنين إنما تحتاج إلى جمهرة من الناس.
ثم جعل التكاثر أيضاً في كل شيء يريد له النمو والاستمرار ليخدم هذا الخليفة
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ .. } [الذاريات: 49].
فإذا كان الإنسانُ سيتكاثر فلا بدَّ أنْ تكبر رقعة الأرض التي يعيش عليها ويتكاثر النبات الذي يعيش عليه، قال تعالى:
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً .. } [النساء: 1] إذن: نحتاج إلى زرع يتناسب وهذه الزيادة.
والمتأمل في مسألة التكاثر هذه في النبات وفي الإنسان يجدها بحسب أهمية الشيء ومدى الاستفادة منه والانتفاع به. قلنا مثلاً: حينما تزرع الفجل يمكن أنْ تأكل منه بعد عشرة أيام، والخيار بعد أربعين يوماً. والتمر بعد أربعة أعوام.
فكل شيء قبل أن يعطيك يأخذ منك على قدر أهميته، فإنْ أردتَ الإنسان فإنه ولا شكَّ يحتاج إلى كثير من الجهود والتبعات، لذلك ربطه الخالق سبحانه في مسألة التكاثر بلذة جامحة تفوق كلَّ لذة أخرى يشعر بها الإنسانُ في كُلِّ جوارحه تفوق لذة العين حين ترى، والأذن حين تسمع، واللسان حينما يتذوق، والأنف حينما يشم، واليد حينما تلمس، لأن الجوارح لكل منها مهمته ووجهته.
أما لذة الجنس فهي تستغرق الجوارح كلها، ولولا أن الخالق سبحانه ربط التكاثر بهذه اللذة ما أقبل أحدٌ عليه ولا تحمَّل تبعاته.
ولك أنْ تتصور الفرق بين تربية طفل وتربية حَمَل أو عجل مثلاً، الحَمَل يقوم ويمشي خلف أمه بعد عدة دقائق من ولادته، والطفل يمشي بعد عام ونصف العام.
ومَشْيه يأتي على مراحل، فبعد عدة شهور يستطيع أنْ يجلس، وبعد عدة شهور أخرى يحبو ثم يقف ثم يمشي.
لذلك نرى طفولة الإنسان أطول طفولة في المخلوقات كلها، ومن هنا ربط الخالق سبحانه عملية التكاثر في الإنسان بهذه اللذة الجارفة التي لا يستطيع الإنسانُ مقاومتها لتكون حافزاً له على التكاثر، وإلا ما أقبل على تحمُّل هذه المسئولية وهذه المعاناة.
ومن هنا أيضاً اهتم الإسلام بتكوين الأسرة، ووضع لها من الضوابط ما يكفل لها النجاح، فهذه الغريزة لا تأتي هكذا كما في الحيوانات، إنما جعل لها قواعد لاختيار الزوجة الصالحة، وحَثَّ على اختيار ذات الدِّين، وجعل فترة للخطوبة ليتعرَّف كلُّ طرف على الآخر.
وأباح لكل منهما أنْ ينظر إلى الآخر ليختار كلٌّ من الزوجين ما يناسبه ويُرضى ذوقه ورغبته في الجنس الآخر، ثم شرع المهر وعقد القرآن، كل ذلك لتكون نواة الأسرة قوية متينة، مُعدَّة لاستقبال الحياة بكلِّ ما فيها من تبعات ومسئوليات.
والجريمة التي ارتكبها هؤلاء القوم واستحقوا بها ما حاق بهم من ألوان العذاب أنهم صرفوا هذه الغريزة التي جعلها الله في الإنسان عن وجهها الحلال إلى وجه آخر محرم لا فائدة منه ولا ثمرةَ له.
وجه ينافي الفطرة السليمة والأذواق المستقيمة، فكانوا يأتون الذكران بدل أنْ يأتوا النساء كما أحل الله، ومعلوم أن الإتيان مقصور على مكان الحرث والاستنبات.
{ { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ .. } [البقرة: 223].
إذن: فعلتهم هذه كانت إسرافاً منهم على أنفسهم، ومجاوزة للحد الذي شرعه الله، والإتيان في غير المحلِّ يستوي فيه إتيان الرجل وإتيان المرأة فكله محرم.
ولما كان هذا الفعل زنا يستحق الرجم رجمهم الله لا بحجارة من الأرض، إنما بحجارة من السماء تنزل على كلِّ واحد منهم باسمه تخصُّه دون غيره، بحيث لم تُبْقِ منهم أحداً وأبادتهم عن بَكْرة أبيهم.