التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
٤٧
وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ
٤٨
وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٤٩
-الذاريات

خواطر محمد متولي الشعراوي

السماء يُراد بها كلّ مَا علانا { بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ .. } [الذاريات: 47] أي بقوة واقتدار وحكمة والبناء يتطلب العملية التي فيها مكين. ثم قال { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا .. } [الذاريات: 48] أي: مهَّدناها وبسطناها.
فالسماء فيها صفة الثبات، فقال { بَنَيْنَٰهَا .. } [الذاريات: 47] والأرض صفتها التغيير، فالمرتفع منها يصير إلى منخفض والتضاريس عليها يطرأ عليها التغيير، فقال { فَرَشْنَاهَا .. } [الذاريات: 48] وهيأناها على وضع يُريح سكانها كما نُهيء للطفل فراشه، فلا يكون فيه ما يقلقه.
{ فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48] من كلمة المهد، وهو الفراش المريح، وحتى فراش الطفل دائماً ما ننظفه ونغيره من حين لآخر، فكذلك الأرض من صفتها التغيُّر وعدم الثبات.
وقوله سبحانه { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات: 49] وفي موضع آخر قال تعالى:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] هذه الكلمة { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] جعلتنا ننتظر زوجية لا نعرفها.
ومع تقدم البحث العلمي وجدنا زوجية في الذرة، ووجدنا أن المطر لا يتكوَّن إلا إذا حدث له تلقيح ذري، وعرفنا الزوجية في التيار الكهربائي، ووجدوها حتى في الجمادات.
وما يزال في جُعْبة العلماء الكثير، وكلها مسائل كانت العقول لا تطيقها قبل ذلك، لأن الأمة العربية التي نزل فيها القرآن كانت أمة أمية، ليس عندها شيء من الثقافة، ولو كُشفتْ لهم هذه الأمور ربما ضاقوا بها وانصرفوا بسببها عن أصل الدعوة.
لذلك الحق سبحانه وتعالى يعطيهم برقية موجزة في
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ .. } [فصلت: 53] ليظلّ الباب مفتوحاً يستوعب كل التطورات ويحتاط لكل جديد.
فالسين دلتْ على المستقبل و(نريهم) مضارع يفيد الاستمرار، فهذه الاكتشافات باقية، ومعينها لا ينضب إلى يوم القيامة.
وإذا كانت عملية التكاثر في الغالب والجمهرة أنها تأتي من ذكر وأنثى، فالحق سبحانه يحتفظ لنفسه بطلاقة القدرة، ويعطينا نماذج من البشر جاءتْ على غير هذه القاعدة.
وكأنه سبحانه يقول لنا: إياكم أنْ تظنوا أنني أقف عند هذه الأسباب بل أخلق ما أشاء، أخلق من زوجين، وأخلق بلا زوجين أصلاً، وأخلق من زوج واحد.
يعني: استوعبت طلاقة القدرة في هذه المسألة كلّ أوجهها، ثم
{ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً .. } [الشورى: 50] فيتوفر الزواج، لكن لا يأتي التكاثر.
ولأن مسألة خلق الأزواج كلها مسألة عجيبة استهلها الحق سبحانه بقوله:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا .. } [يس: 36] يعني: لا تتعجب لأنك أمام قدرة الله، وتنزه سبحانه عن أنْ تقيسه بشىء آخر.