التفاسير

< >
عرض

وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
٥٦
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ
٥٨
-الذاريات

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ .. } [الذاريات: 56] الخَلْق هو إيجاد المادة من عدم وتصويرها على غير مثال سابق، والخَلْق بهذه الصورة لا يكون إلا لله وحده، ومع ذلك لم يحرم خَلْقه من هذه الصفة، فأعطاهم صفة الخَلْق على قدرهم.
وقال سبحانه عن نفسه:
{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] فأنت خالق حينما تبرز للوجود شيئاً جديداً لم يكُنْ من قبل، كالذي يصنع الكوب مثلاً من الرمل يُسمَّى خالق لأنه أوجده، نعم هو خالق ولم يُحرم ثمرة جهده.
أما الحق سبحانه فهو أحسن الخالقين، ومعلوم أن البشر يخلقون من مادة موجودة، أما الحق سبحانه فيخلق من غير موجود، البشر يخلقون مادة جامدة لا حياةَ فيها، أما الخالق سبحانه فيخلق خَلْقاً حياً مُتجدداً ينمو ويكبر، إلى غير ذلك من الوجوه في هذه المسألة، فنحن نخلق لكن الله أحسنُ الخالقين.
ثم إن الحق سبحانه خَصَّ هنا الجنَّ والإنس في مسألة العبادة، ولم يذكر خَلْقاً آخر أعظم هم الملائكة، قالوا: لم يذكر الملائكة في هذا المقام لأنهم خُلِقوا للعبادة وليس لهم اختيار فيها، فهم مخلوقون بدايةً، ومُهيَّئون لعبادة الله، وجُبِلوا على ذلك
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
والحديث هنا عن الخَلْق المختار الذي ينتظر منه الطاعة، وينتظر منه العصيان. فإنْ قلتَ: فلماذا قدَّم الجن على الإنس في هذه المسألة؟
قال بعض العلماء: قدَّم الجن على الإنس، لأن العبادة إما سرية وإما جهرية، وعبادة الجن سِرية لأننا لا نراهم، والعبادة السرية أفضل لأنها لا يدخلها الرياء، أما عبادة الإنس فجهرية في الغالب ويدخلها الرياء.
وهذا القول يمكن الردّ عليه بأن عبادة الجن سرية بالنسبة لنا، لأننا لا نراهم لكن جهرية بالنسبة لجنسه، ويمكن أيضاً أنْ يدخلها الرياء، فهم يرى بعضهم بعضاً.
لكن يمكن توجيه المسألة توجيهاً آخر، فنقول: لو أنك قرأتَ القرآن باستيعاب لوجدتَ أن الجن خُلِقوا قبلنا
{ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر: 27] فقدَّمه على الإنس لأنه خُلِق قبلهم.
ثم إن معظم انصراف الإنس عن العبادة بسبب الشيطان وهو من الجن
{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ .. } [الكهف: 50] ولهذا قدِّموا علينا في مسألة العبادة.
والأسلوب في قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] أسلوب قصر. أي: قصر خَلْق الإنس والجن على العبادة، فهي العلة الوحيدة لهذا الخَلْق، ما خلقهم لشيء آخر سوى عبادته سبحانه.
والعبادة تعني طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، وهذه العبادة بهذا المعنى هي العبادة الحق، وهي مطلوب الله من العباد، لذلك لا يقبل الله إلا ما كان له خالصاً.
وهذه العبادة الحق لا يأتي بها كُلُّ الخلق، بل يأتي كُلٌّ منهم على قدر روحه وعلى قدْر نظره للإله الحق الذي يعبده.
والناس كبشر متفاوتون في هذه المسألة، وأعلاهم فيها هم الرسل، وأفضل الرسل خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي حقَّق العبادة على وفْق مراد الحق سبحانه منها.
لذلك البعض يغالي فيقول: ما خُلق الكون كله إلا من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، ونقول، يكفي أنه صلى الله عليه وسلم أحسنُ عابد لله، لأن العبادة معنى، والمعنى لا يتحقق إلا بعابد حَقٍّ، وهو الذي يؤدي المراد لله.
وهذا العابد الحق لا يأتي من الناس العاديين، إنما يأتي من الأنبياء وسيد الأنبياء وخاتمهم سيدنا رسول الله، فهو خير مَنْ حقق العبادة لله.
إذن: علَّة الخَلْق هي العبادة، والله تعالى مُنزَّه في أفعاله عن العلة، فهو سبحانه يفعل ما شاء لما شاء فيما شاء. والعلة الممنوعة في أفعاله تعالى العلة التي تعود عليه سبحانه.
أما العِلة التي تعود على غيره فلها تعليل، فالعبادة ليستْ له سبحانه إلا لمصلحة الخَلْق جميعاً، لأنها هي التي تسعدهم في الدنيا وتُنجيهم في الآخرة، ولا يعود على الله منها شيء، لأنه سبحانه الغني عن خَلْقه، فلا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم.
فقد خلق الخَلْق بكامل صفات الكمال فيه، فلم يزدد بهذا الخلق صفة لم تكُنْ له من قبل، فهو خالق قبل أنْ يخلق، ورازقٌ قبل أن يرزق، ومُسبَّح قبل أنْ يُوجد ما يُسبِّحه.
وإذا كانت العبادة كما قلنا طاعة العابد للمعبود في أمره افعل ولا تفعل، فهي بهذا المعنى تشمل حركة الحياة كلها، ولا تقتصر على الصلاة والصيام والزكاة كما يريدها البعض من الذين يعزلون الدين عن حركة الحياة.
يقولون: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. وهذا قول باطل وغير صحيح، والذين فعلوا ذلك يريدون أنْ يجعلوا لأنفسهم سلطة زمنية تخضع لأهوائهم ليفعلوا ما يريدون.
لقد تعمدوا عدم الارتباط بمنهج السماء في إدارة شئون الأرض، لأن منهم السماء يقيد حركتهم، ونسُوا أنه أيضاً يقيد حركة المحكومين لمصالحهم.
إذن: منهج الله شمل الحياة كلها، من قمة لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن الطريق، ولو كان الأمر كما يقولون أنترك القاتل فلا يُقتل، ونترك الزاني فلا نقيم عليه الحد، ونترك شارب الخمر، ونترك المفسدين يفسدون، ونترك الناس لا يتناهون عن منكر فعلوه؟
إذن: ماذا يريدون من تعطيل شرع الله وعزله عن حركة الحياة، الحق سبحانه جعل العبادة لصالح الخلق، تنظم حركة حياتهم وتسعدهم.
ودائماً في هذه المسألة نذكر الحديث القدسى:
"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكى شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" .
فكيف نُقصي دين الله عن حركة حياتنا، وقد تدخل في أبسط الأمور، "فدخل رجل عاصٍ الجنة لأنه سقى كلباً، ودخلتْ امرأة النار في هرة حبستها" ، فما بالك بالإنسان الذي كرَّمه الله، أنهتم بسياسة الكلاب ونترك سياسة البشر؟
وورد أيضاً في الحديث القدسي:
"يا بن آدم، خلقتُك لعبادتي فلا تلعب" يعني جدّ في حركة الحياة، لأن اللعب حركة بلا فائدة وبلا مغزى، والله يريد لحركة العباد أنْ تكون حركة نافعة ذات مغزى.
فلو أنك أخذت جانب العبادة وأهمها الصلاة مثلاً، ألستَ تحتاج لإقامة هذا الواجب إلى ستر العورة كيف؟ ثياب تلبسها، كيف تصل إليك هذه الثياب؟
تأمل من أول زراعة القطن إلى أنْ يصلك ثوب تلبسه، إنها رحلة طويلة من السعي والعمل والجد، يشترك فيها آلاف يخدمونك في هذه المسألة.
إذن: حركة الحياة ليست هي الصلاة فحسب، بل كل ما يعينني على أداء الصلاة وكل ما يعينني على أداء الزكاة والصوم والحج.
إذن: العبادة أمر شائع في كل حركة الحياة، فكيف نفصل الدين عن حركة الحياة كلها، فضلاً عن أنْ نفصله عن سياسة أمر الخَلْق وتدبير شئونهم؟
وقوله سبحانه: { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 57].
أي: ما أريد من خَلْقي أنْ يرزقوني، نعم لأنه هو سبحانه الرزاق المتكفّل بأرزاق كُلِّ الخلق، فكيف ينتظر منهم رزقاً، وهو يرزق مؤمنهم، ويرزق كافرهم؟ كيف وهو موجود سبحانه قبل أنْ يُوجدوا، وله صفات الكمال كلها قبل أنْ يخلقهم.
ومن باطن هذا الرزق يرزق الناسُ بعضهم بعضاً، فرزق هذا من يد هذا، والحق سبحانه وتعالى يشجع العبد على أنْ يعطي فيقول له: حينما ترزق عبدي فكأنك رزقتني، وحينما تعطيه كأنك أعطيتني.
ذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الناس واستدعاهم إلى الوجود، وتكفَّل لهم بالرزق، فيد الله ممدودة لخَلْقه بخَلْقه، لذلك سمَّى الصدقة على الفقير قرضاً، فقال:
{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً .. } [البقرة: 245].
وفي الحديث القدسي:
"يا بن آدم مرضتُ فلم تعدني، فيقول العبد: يا رب كيف أعودك وأنتَ رَبُّ العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده. يا بن ادم استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: لقد استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي ..." .
إذن: فعل الخير يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد العبد، والحق سبحانه وتعالى لو أراد لأنزلَ رزقه إلى عباده مباشرة، لكن جعله من أيدي الناس لأيدي الناس ليزرع بينهم الألفة والمودة والمحبة، ويشيع بينهم التراحم وعدم الاستكبار، فالله يريد المجتمع أنْ تكاتف وأنْ يتعاون.
وقوله تعالى: { وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 57] فعطف الطعام على الرزق، لماذا؟ سبق أنْ بيَّنا أن الرزق هو كلّ ما يُنتفع به، وعلى هذا فالعلم رزق، والحلم رزق، والكرم رزق، والصحة رزق وهكذا، فالرزق هنا الرزق العام لذلك خَصَّ بعده الطعام لأنه أظهر شيء في الرزق، وبه تقوم الحياة وتستبقي. قالوا: ولم يذكر الشراب لأنه داخل في الطعام.
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [الذاريات: 58] السياق هنا يؤكد على هذه الحقيقة ليرسخها في الأذهان، ليطمئن كلٌّ منا على أن رزقه مضمون { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ .. } [الذاريات: 58] فاستخدم إن ثم ضمير المنفصل هو { ذُو ٱلْقُوَّةِ .. } [الذاريات: 58] أي: صاحب القوة. وهذا يعني أن الذات شيء، والقوة شيء منفصل عنها.
وفي موضع آخر يتكلم عن القوة والغلبة فيقول:
{ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة: 21] فالقوة هنا في الذات، فلم يقل هنا ذو قوة. لأن المقام مقام بيان للغلبة في وجه المعاندين.
لذلك قال
{ قَوِيٌّ .. } [المجادلة: 21] والقوي هو الذي يغلب، لكن قد تتكاتف عليه قوى أخرى تغلبه، فقال { عَزِيزٌ } [المجادلة: 21] يعني: غالب لا يُغلب أبداً. وهنا قال: { ٱلْمَتِينُ } [الذاريات: 58] أي: الشديد في قوته، لأن القوة قد يصيبها الوهن فتضعف.