التفاسير

< >
عرض

فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٢٩
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ
٣٠
-النجم

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ بيَّن الحق سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم موقف خصومه، وكيف أنهم لا يريدون الحق، بل يريدون الهوى والظن والشهوات، يقول له: يا محمد أرح نفسك من هؤلاء، فلا فائدة منهم.
وقد كان سيدنا رسول الله حريصاً كلّ الحرص على هداية قومه، وكان يُحمِّل نفسه في سبيل دعوتهم إلى الحق فوق ما تحتمل، لذلك خاطبه سبحانه بقوله:
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] وقال له: { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ .. } [الشورى: 48].
وقد بيّنا أن الله تعالى لا يريد منهم قوالب تأتي راغمة، إنما يريد قلوباً تأتي إليه طواعية واختياراً.
لذلك يقول سبحانه لنبيه: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا .. } [النجم: 29] فأعرض: أمر من الفعل عَرَض عارض، وأعرض مُعرض. والهمزة هنا تُسمّى همزة الإزالة. أي: إزالة العرض، تعرفون المعرض الدولي الذي نعرض فيه المنتجات، فصاحب المنتج عارض يعرضه على الناس، ويُبيِّن لهم مزاياه فهو عارض.
وهكذا كان سيدنا رسول الله يعرض الهدى ومنهج الحق على قومه، ويُبيِّن لهم أهدافه ومزاياه، فلم يكْن منهم إلا الصبر والأذى والإعراض عنه والانصراف.
وظل كذلك ألى أنْ أمره ربه بالإعراض عنهم، فقال له: { فَأَعْرِضْ .. } [النجم: 29] من أعرض، وهو عكس عرض، وهمزة الإزالة تُحوِّل الفعل إلى ضده، فكما انصرفوا عنك فانصرف عنهم، أعرضوا عنك فأعرض عنهم.
وهمزة الإزالة في أعرض مثل أعجم. نقول: أعجم الكتاب. أي: أزال عُجْمته ومنه معجم، وهو الكتاب الذي يُزيل غموض الألفاظ، كذلك أعرض أي: أزال العرض.
{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا .. } [النجم: 29] إذن: هم البادئون بالإعراض عن ذكر الله، أي: عن القرآن وعن المنهج لأنه يُقيِّد حريتهم في الشهوات، المنهج تكليف، وهم لا يريدون تكليفاً، يريدون الانطلاق خلف شهواتهم وملذاتهم دون رقيب.
ولو تأمل هؤلاء المعرضون منهم الله لعرفوا أنه في صالحهم، لأنه مثلاً حين ينهاك عن السرقة وأنت فرد ينهى الناس جميعاً أنْ يسرقوا منك، كفَّ يدك وكفّ أيدي الملايين عنك.
إذن: قبل أنْ تنظر إلى مشقة التكاليف انظر إلى عطائها. تذكرون الصحابي الشاب الذي أتى سيدنا رسول الله وقال له:يا رسول الله إئذن لي بالزنا، تصوروا ماذا كان ردّ فعل رسول الله على هذا المطب الغريب؟ لم ينهره بل أدناه منه وتبسَّم في وجهه وقال له: يا أخا العرب أتحبه لأختك؟ فيقول: لا يا رسول الله جُعلْتُ فداك، فيقول: أتحبه لأمك؟ أتحبه لابنتك؟.
يقول الراوي: حتى ذكر العمة والخالة، والرجل يقول: لا يا رسول الله جُعلْتُ فداك، ثم يقول له سيدنا رسول الله: كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبونه لأخواتهم ولا لأمهاتهم ولا لبناتهم.
فيقول الشاب: فانصرفت من عند رسول الله، وليس شيء أبغض إليَّ من الزنا، وما هممتُ بشيء إلا تذكرت أختي وأمي وابنتي.
لذلك الحق سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة يقول عن المتقين:
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5] فالتكاليف الدينية والمنهج ليس عبئاً عليك، إنما هو دابة تحملك وتُوصِّلك إلى غايتك، فهم على الهواء و(على) تفيد الاستعلاء، فالمنهج هو الذي يحملك، وهو الذي يساعدك ويُسعدك.
وقوله تعالى: { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } [النجم: 29] أي: هي غايتهم، فلا يعملون إلا لها وقد أقروا بذلك فقالوا:
{ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ .. } [الجاثية: 24] فالآخرة ليست في حساباتهم.
لذلك الحق سبحانه وتعالى يُسفه هذا الرأي ويقول: { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ .. } [النجم: 30] أقصى ما وصلوا إليه من العلم الذاتي فقد وقف بهم عند هذا الحد.
والعجيب أنهم أغلقوا آذانهم وصَمُّوا أسماعهم عن الهدى، فلم يأخذوا بعلم الله الذي أنزله عليهم { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [النجم: 30].
نقف أولاً عند أسلوب القصر { هُوَ أَعْلَمُ .. } [النجم: 30] حيث قصر العلم على الله وحده، لأن الهداية والضلال أمر في غالبه غيبي لا يطلع عليه إلا عالم السر وأخفى، ثم إن الجميع يدَّعي أنه على الهدى، وأن غيره على الضلال، لذلك اختصَّ الله بهذا العلم نفسه سبحانه.
وقد جاءت هذه الآية { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [النجم: 30] بعد قوله تعالى لنبيه: { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا .. } [النجم: 29] فهنا تناسب بين الآيتين، لأن الله تعالى سبق علمه بخَلْقه مَنْ يضل ومَنْ يهتدي، مَنْ سيُقبل على الدعوة، ومَنْ سيعرض عنها.
لذلك قال لنبيه أرح نفسك
{ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ .. } [الشورى: 48] والحق سبحانه وتعالى أخبر رسوله بمَنْ سيهتدي وبمَنْ سيظل على ضلاله، فأبو لهب وأبو سفيان وعمرو وخالد بن الوليد كانوا جميعاً في خندق واحد ضد الإسلام، فشاء الله أنْ يؤمن أبو سفيان وخالد وعمرو.
أما أبو لهب فقد ظلَّ على كفره، حتى بعد أنْ نزلت فيه
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [المسد: 1-3].