التفاسير

< >
عرض

وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
-النجم

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه الآيات امتداد لجواب القسم { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم: 2] وهنا يقسم الحق على صفة أخرى لسيدنا رسول الله { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النجم: 3] النطق هو القول، أي ما يقول عن هواه، ولا يأتي بشيء من عنده ولا باجتهاده.
{ إِنْ هُوَ .. } [النجم: 4] أي: ما هو والمراد القرآن الكريم الذي نطق به محمد { إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 4] أي: من عند الله، وهذا أسلوب قصر: ما القرآن إلا وحي وليس شيئاً آخر.
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] الذي علّمه محمداً وأوحاه إليه { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] وهو أمين الوحي جبريل عليه السلام. والقُوَى جمع قوة، فله قُوى متعددة تناسب مهمته، له قوة ذكاء في الاستقبال، وقوة في الحفظ. وقوة في الإرسال والإلقاء، وليس لديه هوى يغير ما جاءه ولا خيانة ولا كذب. وهذه الصفات هي التي حمتْ القرآن من التغيير كما غُيِّرتْ الكتب السابقة.
وقد حكى الله تعالى عن أهل الكتاب:
{ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً .. } [البقرة: 79].
وكلمة { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] فسَّرها في آيات أخرى فقال، حتى قبل نزول القرآن:
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79].
وقال:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193]، وقال: { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير: 20-21] هذه كلُّها صفات جُمعَتْ لجبريل عليه السلام.
وهنا قال: { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } [النجم: 6] أي صاحب (مِرَّة) وهي القوة في كل ما يتناوله، وهي الدقة التي لا تخطئ، والمرَّة صفة تقوى الشيء، تروْنَ الحبل مثلاً عندما يُفتل يكون فَتْله مناسباً لمهمته، فحبل الغسيل مثلاً غير الحبل الذي يُشدُّ به شراع المراكب.
كذلك مهمة سيدنا جبريل مع سيدنا محمد، أنْ يؤدي هذه المهمة بقوة ودقة وذكاء بحيث يأتي رسول الله بصورة مقبولة لا تُرد، صورة فيها تشويق لتلقِّي الوحي ولا تردها طبيعة محمد البشرية، كذلك كان للكلام حلاوة لأنه كلام الله ليس كلام البشر، وله ظواهر تدل عليه وعلى مصدره الإلهي.
وأول ما جاء الوحيُ رسولَ الله أجهده، لأنها المرة الأولى التي تلتقي فيها الطبيعة البشرية بالطبيعة الملائكية، لذلك تصبَّب عرقاً وبرد وقال: زملوني دثروني، إذن: أثّر في جسده ونفسه، حتى أنه خاف أنْ يكون ما حدث له شيئاً من مسِّ الشيطان.
ولما أخبر السيدة خديجة بالأمر وكان لها فطنة في هذه المسألة فقالت له: عندما يأتيك أخبرني، فلما جاءه الوحي أخبرها فجلستْ على ركبته وقالت: أتراه؟ قال: نعم، فكشفتْ عن صدرها وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: إذن هو مَلَك وليس شيطاناً.
وتأمل هنا حصافة السيدة خديجة وما تتمتع به من فقه قبل نزول الإسلام، وكأنَّ الحق سبحانه أعدَّ للإسلام أناساً من الرجال والنساء يستقبلون خبره الأول ويؤيدونه ويُصدِّقونه دون أنْ ينتظروا معجزة يرونها ليصدِّقوه، لأن معجزة رسول الله عندهم كائنة في شخصه وفي سيرته بينهم، معجزته بالنسبة لهم في صدقه وأمانته وكرمه ومروءته.
ويكفي أنْ نذكر في هذا المقام موقف الصِّديق لما قالوا له: إن صاحبك يدَّعي أنه نبيٌّ ويُوحى إليه، فقال الصِّدِّيق وكان عائداً من سفر: إنْ كان قال فقد صدق، إذن: دليل صدقه في نظر الصديق أن يقول، مجرد أن يقول يكفي قوله ليصدق.
وهذا المعنى واضح في قوله سبحانه:
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] يعني: يكفي في تعريفه أنه (محمد) الذي تعرفونه هو رسول الله، فمنزلة رسول الله بين قومه لا تحتاج إلى وصف ولا إلى تعريف فوق ذلك.
وكان المنتظر منهم أنْ يقولوا: ومن أوْلَى بالرسالة منه، لكنهم قالوا كما حكى القرآن
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
ومن معاني { ذُو مِرَّةٍ .. } [النجم: 6] أي: صاحب الخُلق الحسن والمنظر الحسن الجميل، فكان يأتي رسول الله بالمنظر الحسن الذي يحبه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب النظر إلى دحية الكلبي فكان يأتي على صورته.
إذن: معنى { ذُو مِرَّةٍ .. } [النجم: 6] أي: فيه كل الصفات الطيبة التي تجعله مقبولاً غير مردود، وهو موصوف مع ذلك بالقوة، فلما ظهر لرسول الله بصورته الحقيقية ظهر في صورة طائر جميل له أجنحة.
كما قال تعالى:
{ أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ .. } [فاطر: 1] ويكفي في بيان قوته أنه ضرب قرى لوط بريشة واحدة من جناحه فدكها وجعل عاليها سافلها.
وما أدراك بمَنْ { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5] فالتعلّم يشرُف بشرف المعلم، كما نرى مثلاً خطيباً مُفوَّهاً لا يلحن في خطبته لحناً واحداً، فنقول: نعم فالذي درس له فلان.
كذلك الذي علَّم رسول الله هو جبريل بكلِّ ما عنده من صفات القوة والذكاء والأمانة والصدق .. { ذُو مِرَّةٍ .. } [النجم: 6].
ومعنى { فَٱسْتَوَىٰ } [النجم: 6] علَّمه جبريل حتى استوى رسول الله ونضج في عملية التحصيل الكافي لهداية العالم، فحمَّله هذه المهمة ليهدي الناس، ومنه قوله تعالى في سيدنا (موسى):
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [القصص: 14].
لكن كان الوحي في أوله يثقل على رسول الله كما قال سبحانه: { سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5] فأراد الحق سبحانه أنْ يريح رسوله من هذا التعب ليعطيه الفرصة ليتذوق حلاوة ما ألقى إليه ويشتاق إليه من جديد، فيكون الوحي أخفَّ على قلبه وتهون عليه معاناته.
ومعلوم أن الإنسان عادة يتحمل المشاق في سبيل ما يحب، لذلك لما فتر الوحي عن رسول الله ستة أشهر، فأخذها أعداء الدعوة فرصة وقالوا: إن رب محمد قلاه، سبحان الله، الآن وفي المصيبة يعترفون برب محمد.
لذلك ردّ الله عليهم
{ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 1-5].
أي: ما ودعك ربك يا محمد وما قلاك، إنما أراد لك أنْ ترتاح.
ثم أعطاه مثالاً من واقع حركة الكون، فما أنت بالنسبة للوحي إلا مثل الضحى والليل، فالضحى للعمل، والليل للراحة، ثم يعاود من جديد لتقبل عليه في نشاط وقوة، كذلك الوحي سيعاودك وسيكون أحبّ إليك وأيسر عليك، وستكون الآخرة خيراً لك من الأولى.
ثم إن كلمة الوداع
{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 3] تدل في ذاتها على المحبة، فلم يقُل هجرك مثلاً إنما ودَّعك، والوداع يكون على أمل اللقاء كما يودع الحبيب حبيبه عند سفره.