التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
-القمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الساعة من أسماء يوم القيامة، فهي: الساعة، والحاقة، والصَّاخة، والواقعة، والطامة، وغيرها، وكلُّ وصف من هذه الأوصاف فيه جانب من الفزع والإخافة.
ونلاحظ المناسبة بين أواخر النجم وبداية القمر، فهناك قال:
{ أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } [النجم: 57] وهنا قال: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ .. } [القمر: 1] وقلنا: إن مجرد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، نعرف أن الساعة لن تقوم إلا على شرار الخلق حين لا يقال في الأرض: الله، الله.
أما أهل القبور، من لدن سيدنا آدم عليه السلام إلى مَنْ مات قبل قيام الساعة، فكما قلنا إن الزمن في حقِّهم متوقف، لأن الزمن فرع الأحداث، فإذا لم توجد الأحداث لا يوجد الزمن.
لذلك قال تعالى عنهم:
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } [النازعات: 46] أي: القيامة { لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا } [النازعات: 46] والرجل الذي حاجّ إبراهيم في ربه أماته الله مائة سنة، وقال بعد أنْ أحياه الله { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ .. } [البقرة: 259].
وقالها أهل الكهف بعد ثلاثمائة سنة وتسع، لأن هذه هي الفترة التي يمكن أنْ يستغرقها النائم في نومه، كذلك ستمر فترة البرزخ على أهل القبور هكذا، وكأنهم ناموا نوْمة وقاموا منها.
والله سبحانه وتعالى هو مالك الزمن، وهو القابض والباسط، يقبضه لمَنْ يشاء ويبسطه لمَنْ يشاء.
ومعنى { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ .. } [القمر: 1] يعني: هي قريبة منك على المستوى الشخصي، فلا تنظر أنت إلى العلامات الصغرى، ثم إلى العلامات الكبرى وتقول: ما زال الوقت طويلاً بيننا وبين القيامة، لا ليس كذلك يكون تصور القيامة.
فالقيامة للإنسان هي أنْ يموت، ليستْ بعد آلاف أو ملايين السنين لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ مات فقد قامت قيامته" .
نعم لأنه انتقل من مرحلة الدنيا إلى مرحلة الآخرة، وانقطع عمله في الدنيا، والحق سبحانه أبهم وقت الموت ومكانه ليظل الإنسان على ذِكْر له في كل لحظة.
وقوله تعالى: { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] انشقاق القمر آية كونية ثابتة بالكتاب والسنة، فقد ورد أن القمر انشقّ لرسول الله حتى ظهر حراء بين الشقين، وقد رأى هذه الآية أهل هذا الزمان ممَّنْ تيسر لهم الرؤية فشاهدوه على هذه الصورة.
لا نقول رآه العالم كله، لأن الآيات الكونية معجزات يُراد منها تثبيت الرسل، وبيان صدقهم في البلاغ عن الله، فليس بالضرورة أنْ يرى هذه الآية كلُّ أهل هذا الزمان، كيف ونحن الآن مع التقدم العلمي الهائل وتوفر وسائل الاتصال نسمع عن حدوث خسوف أو كسوف في وقت كذا وكذا، وفعلاً تنقله القنوات المختلفة، ومع ذلك ومع الإعلان عن الظاهرة مُقدِّماً إلا أن القليل هم الذين يتمكنون من رؤيتها، والقمر آية ليلية في وقت معظم الناس فيه نائمون.
ثم إن المعجزات والآيات الكونية للرسل لا يُقصد منها المعجزة الدائمة، بل معجزة لمَنْ شاهدها ليثبت على إيمانه إنْ كان مؤمناً، أو يؤمن بالله إنْ كان كافراً.
لذلك قالوا: هي كعود الكبريت لا يشتغل إلا مرة واحدة، وهكذا كل معجزات الرسل، فلولا أن القرآن أخبرنا بعصا موسى ما كنا عرفنا عنها شيئاً.
والآيات الكونية هذه خَرْق للنواميس في لحظتها، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها، فالقمر انشقّ فعلاً وخرق العادة، ثم عاد إلى ما كان عليه بعد أنْ رآه كفار مكة المكذبون لرسول الله، ليس كل الكفار بل بعضهم، فهذا البعض الذي شاهد المعجزة كافٍ لإثباتها.
وقالوا: معنى { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ .. } [القمر: 1] أي: ساعة كل إنسان وأجله الذي ينتظره { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] أي: ينشقّ عنه ويغيب ويعتزل حياته.
وما دام أن الله تعالى قال { ٱقْتَرَبَتِ .. } [القمر: 1] فقد اقتربتْ بالفعل، ولا تبحث في هذه المسألة.
والحق سبحانه قال أيضاً:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل: 1] فقال (أتى) بلفظ الماضي كأنه حدث بالفعل فكيف يقول { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ .. } [النحل: 1] قالوا: لأن الله هو الذي قال (أتى) ولا أحدَ يستطيع أن يعترض عليه أو يمنعه أنْ يحقق ما أخبر به.
كذلك في قوله { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ .. } [القمر: 1] فقد اقتربتْ بالفعل، إما ساعة كلّ إنسان حينما يأتي أجله وهذا قريب، أو الساعة العامة فهي أيضاً قريبة، لأن انشقاق القمر من علاماتها وبعثته صلى الله عليه وسلم من علاماتها.
ويُروى أن المكذبين لرسول الله قالوا له: إنْ كنتَ صادقاً فيما تخبر به فأتِ بآية الآن تدل على صِدْقك، قالوا: الوليد بن المغيرة وأبو جهل بنَ هشام والعاص بن وائل، والعاص بن ربيعة، والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب، وربيعة بن الأسود، والنضر بن الحارث.
وكل هؤلاء وغيرهم حضروا هذه الواقعة، حيث دعا رسول الله وسأل ربه فانفلق القمر نصفين، نصف على جبل أبي قبيس، ونصف على قينقاع حتى ظهر غار حراء بينهما، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا سحر، أما أهل التعقل فقالوا: نسأل المسافرين في الصحراء بعيداً عن هذا المكان، فلما سألوهم قالوا: نعم رأيناه وقال آخرون: لم نره.
وقد أرجع الإمام علي رضي الله عنه هذا الاختلاف إلى أن آية انشقاق القمر آية ليلية، البعض رآها بالفعل، والبعض بل الأكثر لم يرها.
وباستقراء الآيات التي وردت في قيام الساعة وما يسبقها من علامات، نقرأ
{ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } [التكوير: 1-2] وغيرها كثير مما يُصوّر لنا انهدام هذه الكيانات.
أما القمر فلم يأت فيه إلا قوله تعالى:
{ فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } [القيامة: 7-8] والخسف أهون، وأقل من تكوير الشمس.
ونفهم من هذا أن حادثة انشقاق القمر في الدنيا ستُدخر له في الآخرة، فلا يحدث له ما يحدث لغيره من النجوم.
لذلك يقول سبحانه:
{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 68] إذن: هناك مَنْ يُصعق وهناك مَنْ ينجو.
وفي تصوير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لموقف القيامة يقول: فلما أفقتُ وجدت أخي موسى آخذاً بعضد العرش. وهذا يعني أنه عليه السلام لم يُصعق فيمَنْ صُعق - لذلك تعجب رسول الله.
ثم بيَّن أنه صُعق مرة في الدنيا وهو على جبل الطور:
{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً .. } [الأعراف: 143] وما كان الله سبحانه وتعالى ليجمع على نبيه موسى الصعقتين، فلما صُعِق في الدنيا نجّاه من صعقة الآخرة.
وهذا هو الاستثناء
{ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 68].
وهكذا الحال في مسألة انشقاق القمر، وهذا يعني أن الانشقاق كان حقيقياً وآية كونية أخرجتْ القمر عن طبيعته وكيفيته، لذلك لا يصيبه ما يصيب النجوم الأخرى في الآخرة.