التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٨٣
-الأنعام

خواطر محمد متولي الشعراوي

والحجة هي البرهان القائم لإثبات القضية المطلوب إثباتها. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد منا حين نحاجج أن تكون لنا غاية في الحجاج، ونحن نعلم أن الغاية في الحجاج إن تعدت موضوع الحجاج نفياً أو إثباتاً فهي تهريج، وينحصر الأمر في أنك تريد الانتصار على خصمك وأن يحاول خصمك الانتصار عليك، لكن عليك إذا ما دخلت الحجاج أن تجعل الغاية الأصيلة هي الأساس، وكما يقولون تحديد وبيان محل النزاع؛ لأن الحق لا بد أن يكون أعزّ منك ومن خصمك عندك، ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تتناظروا في قضية تناظراً جماهيرياً، لماذا؟ لأن الصوت الجماهيري يلتبس فيه الحق مع الباطل، والله سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن يكون محسوباً على صاحبه، ومثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد لا يتعرف أحد على من بدأ الهتاف.
والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعقدون اجتماعات جماهيرية، ينقدون فيها أقوال رسول الله فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي.
ولذلك يقول ربنا:
{ { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46].
أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم الله، ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول الله موضوعاً، وتاريخاً، ومنطقاً. ولا يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة وفي بالهما الله فقط - إلا وينتهيان فيها إلى رأي موحد. ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمداً من تلك القاعدة الإيمانية.
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 83].
وأول قوم إبراهيم أبوه آزر، إنه حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، وبعد ذلك انتصر بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان، وهو النمروذ حين أراد أن يناظره في قوة الإحياء والإماتة.
ويريد الحق أن نتعلم من حكمة سيدنا إبراهيم، إنك إذا رأيت خصمك يدخل فيما لا يمكن أن ينتهي فيه الجدل فانقله إلى المستوى الذي لا يستطيع منه خلاصاً ولا فكاكاً، فلا يغلبك؛ فالملك النمروذ قال له:
{ { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [البقرة: 258].
وكان باستطاعة سيدنا إبراهيم أن يقول: أنت لا تميت بل تقتل، والقتل غير الموت؛ لأنك تنقض البنية، لكنه لم يرد أن يطيل الجدل، وأراد أن يكون الجدل مقتضباً، ويسقطه على الحجة ويلزمه بها من أقصر طريق، فقال الله:
{ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } [البقرة: 258].
فماذا كانت نتيجة الجدل؟ يقول الله سبحانه:
{ { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [البقرة: 258].
وكل هذه حجج يوضحها قول الله سبحانه: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 83].
لقد أعطى الله سبحانه إبراهيم الحجة على قومه، أي كانت له عليهم درجات وسمو وارتفاع؛ لأن إقامة الحجة على الغير انتصار، والانتصار رفع لدرجة موضوعك، ورفع أيضاً لموضوع عملك. وسبحانه لا يشاء إلا عن حكمة، ولا يشاء إلا عن علم؛ لأنه إن أطلقنا المشيئة لواحد من البشر فقد يفعل الفعل بدون حكمة وبدون علم، أما الحق فينبئنا بأن مشيئته هي عن حكمة وعلم لصالح الخلق؛ لأن مشيئته مبنية لا على هوى، ولا على نفع من أحد، فالله سبحانه له كل صفات الكمال والجلال والجمال قبل أن يخلق الخلق.
إن خَلْق الخلق وإيمانهم لا يزيد في ملك الله، وإن عصوا لا ينقص من ملك الله شيء، ولكن الحكمة قد تفوت عن بعض الخلق فلا يهتدون إليها، وسبحانه حين يجري أمراً على خلقه ثم يقبلونه وإن لم يعلموا علته يريهم جل وعلا الحكمة في الفعل الذي كان غير مقبول لهم؛ لأنه سبحانه خلق الخلق ويعلم أزلاً أن للخلق أهواء ومرادات، ولو أعطى كل مخلوق مراده لأعطاء على حساب غيره، والحق سبحانه عادل فلا ينفع واحداً ويتعب الآخر.
والحق بحكمته يعلم ما يصلح أمر خلقه، فلا يستجيب لدعوة حمقاء من عبد، فبسحانه يعلم أنه ليس في صالح العبد أن يلبي له هذا الطلب. ولذلك يقول الحق:
{ { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11].
إن العبد يقول: يا رب اصنع لي كذا، يسّر لي هذا الأمر، وهو خير في عرفه، وقد يكون هو الشر؛ لأن الإنسان عجول. لذلك يقول سبحانه:
{ { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [الأنبياء: 37].
إن الحق جل وعلا يضبط مرادات الخلق؛ فالصالح يجريه عليهم.
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } وكلمة "رب" حينما ترد لا بد أن نفهم منها معنى الخلق والتربية، وساعة تأتي كلمة "الألوهية" فلنعلم أنها للتكليف؛ لأن الله هو المعبود المطاع إن أمر أو نهى، ولكن الرب هو من خلق وربَّى، وتعهد، وأعطاك مقومات حياتك. إذن عطاء الربوبية شيء، وعطاء الألوهية شيء آخر، وعطاء الربوبية يأخذه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ لأن الله هو الذي استدعاهم للوجود، وجعل الكون مسخراً لهم، لكن عطاء الألوهية يتمثل في "افعل كذا" و "لا تفعل كذا"، وهذا يدخل في منطقة الاختيار. فالذي يكفر بالله ويحسن الأخذ بالأسباب يأخذ نتائجها، ومن يؤمن بالله ولا يحسن الأخذ بالأسباب لا يأخذ النتائج؛ لأن الاستنباط في الكون من عطاء الربوبية.
ويقول الحق:
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... }.