التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٥٤
-الأعراف

خواطر محمد متولي الشعراوي

هنا ربوبية، وهنا ألوهية: { رَبَّكُمُ ٱللَّهُ } ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 38].
وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون: الله، ولم يدّع أحد لنفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو: "افعل ولا تفعل"؛ لأن التكليف من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على الله. وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أزلية، وبصفات الكمال خلقكم أنتم، إذن فأنتم لن تأتوا بصفة ما، بل بصفات الكمال أوجدكم. وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله - ولله المثل الأعلى - منزه عن التشبيه، كأن تقول الأم للولد: قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلاً، فيتأبى الولد. وتنبه الأم ولدها: إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك مصروف اليد.. إلخ.
وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المُكَلف هو الرزَّاق ولا أحد سواه يرزق، لذلك كان يجب أن تقبل تكاليفه لأن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا.
ومن قبل فصل الحق سبحانه لنا خلق الإنسان، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف وجود الإنسان هو السماء والأرض، وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الأرض، وإذا كان الله قد علمنا كيف خلقنا، فهو هنا يعلمنا كيف خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان وخلق السماوات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث، فمن العلماء من قال: إن الأرض انفصلت عن الشمس، ومنهم من افترض نظرياً أن الإنسان أصله قرد، ولهؤلاء نقول: هذا حكم منكم لا يُقبل؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق، ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق.
هو سبحانه يقول:
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54].
والآية تتعرض للخلق الأول وهو السموات والأرض - كما أوضحت - وهو الظرف الوجودي للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس، فكأن الله أعد الكون للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كوناً مسخراً له؛ ولا يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ }.
ومعنى "خلق" أي أوجد شيئاً كان معدوماً وبرأه على غير مثال سبقه. فربنا سبحانه قدر كل شيء بنظام دقيق غير مسبوق، هذا هو معنى الخلق، وكلمة "الخلق" مادتها الفاعلة هي: خالق، وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد فيقول:
{ { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله، ولكنه سبحانه أيضاً أشرك خالقاً غيره معه فقال جل وعلا: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }. كيف؟؛ لأن الخلق إيجاد شيء معدوم، والذي صنع الميكروفون يقال خلقه، والذي صنع الكوب يقال خلقه، والذي صنع المصباح يقال خلقه، لأنه كان شيئاً معدوماً بذاته، فأوجده. لكن الفارق أن الخالق من البشر يوجد معدوماً من موجود ولا يأتي بمادة جديدة؛ فمن أخذ المواد الموجودة في الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاج يقال له: خلق المصباح وأوجد معدوماً من موجود.
لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئاً معدوماً من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء، وأيضاً فإنكم حين تخلقون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها، فمن صنع الكوب من الرمل المصهور يظل الكوب هكذا، ولا نستطيع - كما سبق أن قلت قديماً - أن نأتي بكوب ذكر، وكوب أنثى، ونضعهما معاً في مكان ونقول لهما: أنجبا لنا أكواباً صغيرة.
لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر. إذن فهو أحسن الخالقين.
والله سبحانه وتعالى يعطينا خبر خلقه السماوات والأرض. وأوضح سبحانه أن السماوات سبع وقد جاءت مجموعة. أما الأرض فجاء بها مفردة. لكنه جل وعلا قال في آية أخرى:
{ { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ .. } [الطلاق: 12].
فكما خلق سبع سمٰوات خلق سبع أراضين، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض مفرداً؟.. لماذا لم يقل: سبع أراضين؟؛ لأن كلمة "أراضين" ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسمٰوات مجموعة لخفتها ويسر نطقها.
والسماء هي كل ما علاك فأظلك، هذا معنى السماء في اللغة. لكن هل السماء التي يريدها الله هي كل ما علاك؟.. إن النجم هو ما علاك؛ وقد يقال: إن الشمس علتك، والقمر علانا جميعاً. ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا السماوات هي الكواكب إنها ليست دائماً ما علانا؛ فالشمس تعلو وقتاً وتنخفض وقتاً آخر. وكذلك القمر.
إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه سماء دائماً. وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب سبعة وقالوا: إن هذه هي السماء، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ. وأوضح الحق لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى. فمرة رأى العلماء ثمانية توابع، ومرة تسعة، وأخرى عشرة توابع، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء، وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله، والحق هو القائل:
{ { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ } [الصافات: 6].
هذه - إذن - زينة للسماء الدنيا، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون عليها، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وكان الجن قديماً يقعدون منها مقاعد للسمع { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً }. وحدث هذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم والحق هو من قال لنا ذلك. ولم يوضح الحق لنا حقيقة هذه السماء ونظامها، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب، وسبحانه خالق السماء التي فوقنا، وهو جل وعلا خالق أراضين. وأين هي هذه الأراضين؟.. أهي أراضين مبعثرة؟
ولقد أثبت العلم أن كل مجرّة من المجرّات فيها مليون مجموعة شمسية، وكل مجموعة شمسية فيها أرض، إذن فهناك أراضٍ عديدة، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن في هذا العالم العالي توجد أراضٍ، وكل أرض أرسل لهم الحق رسولاً.
والحق هو القائل:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [الشورى: 29].
ويعطينا العلم كل يوم مزيداً من الاكتشافات. وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك والأرض كل ما أقلك. وما دامت سبع سماوات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء، وتأتي بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى. ونحن غير مكلفين بهذا، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله.
والحق يقول:
{ خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .. } [الأعراف: 54].
وقوله: { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هو ظرف للخلق. واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة. لكن لا بد لنا أن نعرف بعضاً من اصطلاحات الحق القرآنية.
فهو يقول سبحانه وتعالى:
{ { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [سبأ: 18].
أي هناك ليل وهناك يوم، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لأننا نطلق اليوم على المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد. هكذا يكون اليوم في العرف الفلكي: من شروق إلى شروق، أو من غروب إلى غروب، وقول الحق: { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }.
يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسماً والنهار قسماً، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا بعد أن وجدت الشمس؟.. وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عُرف اليوم قبلها وخصوصاً أن السماء والأرض حينما خُلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟.. وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن خلقه، وخاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم. ألم تقرأ قول الله سبحانه:
{ { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 62].
وليس في الآخرة بكرة ولا عشى، إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر العشي، وكذلك { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة أيام، ولكن آية التفصيل للخلق، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام. اقرأ معي:
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ .. } [فصلت: 9-12].
والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإِجمال فكلها تقول: إنها ستة أيام، ومن هذه النقطة دخل المستشرقون، وادعوا زوراً أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية. ونقول: إنه - سبحانه - خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق السمٰوات في يومين فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السمٰوات والأرض ستة أيام أو نحمل المفصل على المجمل، فحين يقول الحق:
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .. } [الأعراف: 54].
فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد؟.. إن ربنا يخلق بـ"كن"، ونحن البشر نعالج على حسب قدرتنا لنخلق شيئاً، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمناً، لكن من يخلق بكلمة "كن" فالأمر بالنسبة له هين جداً - سبحانه وتعالى - لكن لماذا جاء بخبر الخلق في ستة أيام؟
نعلم أن هناك فرقاً بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد. وكنا قد ضربنا المثل سابقاً - ولله المثل الأعلى - بصانع الزبادي، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ، ثم يضع في كل منها جزءاً من خميرة الزبادي، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب. فهل يؤدي هذا الرجل عملاً لمدة أثنتي عشرة ساعة في كل كوب، وهي المدة اللازمة لتخمر الكوب؟.. طبعاً لا، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن تنضج.
ولننظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي. ويأخذ الأمر تسعة شهور وسبحانه جل وعلا لا يعمل في خلق الجنين تسعة شهور، لكنه يترك الأمر ليأخذ مراحل تفاعلاته.
إذن فخلق الله السمٰوات والأرض في ستة أيام لا يعني أن الستة أيام كلها كانت مشغولة بالخلق، بل قال سبحانه: "كن" وبعد ذلك ترك مكونات السماوات والأرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لأن ميلادها سيكون بعد ستة أيام. وفي القرآن آية من الآيات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة، فقال سبحانه:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق: 38].
أي خلق سبحانه السماوات والأرض دون تعب؛ لأنه لا يعالج مسألة الخلق، بل إنما يحدث ذلك بأمر "كن" فكانت السماوات والأرض. والآية التي بعدها فوراً تقول:
{ { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ .. } [ق: 39].
وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً له: إنهم يكذبونك وقد ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر. لكن الحق جعل لكل مسألة كتاباً، فهو قد خلق السماء والأرض في ستة أيام. ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمراً: يا سيدي إن ربنا خلق السماء والأرض في ستة أيام. فلا تتعجل الأمور.
إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والأرض في لحظة، لكنه أمر "بكن" وترك المواد تتفاعل لستة أيام. ولماذا لا نقول: جاء بكل ذلك ليعلمنا التأني، وألا نتعجل الأشياء؟ لأنه وهو القادر على إبراز السماوات والأرض في لحظة، خلقها في ستة أيام، ولذلك قال سبحانه:
{ { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ .. } [ق: 39].
أي لا ترهق نفسك لأنه سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام، وسيأتي لهؤلاء الجاحدين يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتماً.
وهناك من يتساءل: كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟.. ونقول: إنه الإنجاز الذي أخبر به سبحانه مرة واحدة، وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة، وتعددت استدامة انفعالات السامع لقدرة الله، في كل جزئية من جزئيات الفعل، وأخذ الأمر ستة أيام. واستقر الأمر بعد ذلك واستتب، وسبحانه يقول:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ .. } [الأعراف: 54].
ولا بد أن نعرف العرش ما هو. وسبحانه يقول في ملكة سبأ:
{ { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 23].
فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور.
فكأن قوله: { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في { ٱسْتَوَىٰ }، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسياً يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما. وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة { ٱسْتَوَىٰ } منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: "صعد" أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق:
{ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ .. } [فصلت: 11].
وكلها معانٍ متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا: المقصود بـ"استوى" أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. } [الشورى: 11].
فحين يقول سبحانه:
{ { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .. } [الفتح: 10].
ونحن نفهم أن لليد مدلولاً، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول أن لله يداً فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة. والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار "ليس كمثله شيء"، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة" وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الاستواء؟.. لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله.
وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟.. إن كان يعلم لأخبرنا بها، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر.. فهل تطلب لنفسك أن تعلم ما لم يعلمه صلى الله عليه وسلم؟
أو أنّه صلى الله عليه وسلم ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار "ليس كمثله شيء" والذين يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال: إن له يداً، فقل ليست كأيدينا في إطار "ليس كمثله شيء"؛ لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟. لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟.. إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه. ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيراً إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول:
{ { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ .. } [القصص: 88].
وما دام "كل شيء هالك إلا وجهه" فكل ما يطلق عليه شيء يهلك، ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار "ليس كمثله شيء". وآية الاستواء على العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديداً في "سبعة مواضع"؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد.
وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش: { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ }.
الله - سبحانه - قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟.. لا بد أن يقوم بكل مقومات الحياة، وإذا ما عمل فسيبذل جهداً، والجهد يقتضي راحة. ومن يشتغل ساعة لا بد أن يرتاح ساعة. وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه.
ونحن نرى في الآلة التي تعمل ثلاث ورديات يومياً أي التي تعمل لمدة الأربع والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين، والآلة التي تعمل وردية واحدة أي لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر. وكل إنسان يحتاج إلى الراحة. فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدف:
{ { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ .. } [القصص: 73].
أي لتسكنوا في الليل، وتبتغوا الفضل في النهار، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل بالنهار، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل. لذلك أوضح سبحانه لنا: أنا خلقت الليل والنهار، وجعلت الليل سكناً إلى للراحة والبعد عن الحركة، والحق يقول هنا:
{ يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ .. } [الأعراف: 54].
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة.
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62].
والليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وفي مصر نكون في نهار مثلاً، ويكون هذا الوقت في بلد آخر ليلاً، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار، وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقاً معاً. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولاً ثم يعقبه الليل، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولاً ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار. والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما خلفة للآخرة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة. كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس، وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل، ويكون الليل خلفه للنهار.
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62].
{ يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات السابقة التي منها قوله الحق سبحانه:
{ { وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ .. } [يس: 40].
أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل، وهذا دليل على أنهما خُلقاً دفعة واحدة.
والحق يقول هنا: { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ .. } [الأعراف: 54].
فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل، بل كلها مسخرة، ولذلك تجد النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولا لاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر، وفي الوقت الفلاني سيقع القمر بين الأرض والشمس، وسيحدث للشمس كسوف، وسيحدث للقمر خسوف، وكل أمر من هذا له حساب دقيق.
{ يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ .. } [الأعراف: 54].
والخلق إيجاد الأشياء من عدم، فبعد أن خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد، بل - سبحانه - له الأمر بعد ذلك. وقيوميته باقية؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس تعمل، لا، فبأمره يُعطل النواميس أحياناً، ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة. لذلك يقول: { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ }.
وإذا نظرت إلى كلمة "الأمر" تجد الحق يقول:
{ { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ .. } [آل عمران: 154].
والمقصود هو الأمر الكوني، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج، وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإمّا أن تعصي، وأنت حر.
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54].
وحين يقول سبحانه: { تَبَارَكَ ٱللَّهُ } وقال من قبل: { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }، فكل لفظ له معنى، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك.
وفي قول آخر يصف الحق نفسه:
{ { وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 62].
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة، وهي آلات تتم "برمجتها" وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة. لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة. لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب واحد، فأنت لك حساب مع الله، والآخر له حساب مع الله، والحساب مع الله متعدد بتعدد أفراد المحاسبين، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه:
- أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟
قال: وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
وانظر إلى القرآن تجد الحق { أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } و{ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }، و { أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } و { خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ }. وهذه هي الألفاظ التي وردت، ولله فيها مع خلقه صفة، لكن صفة الله دائماً في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }. { تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }.
و{ تَبَارَكَ ٱللَّهُ } أي أنه - تعالى - تنزّه؛ لأن هناك فرقاً بين القدرة المطلقة - وهي قدرة الله - والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وبـ"كن" وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ... }.