الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لَمَّا أثنى على الصَّحابة وبين علوهم، نهاهم عمَّا يوجب انحطاطهم فقال: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ (*) يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ }: أمْراً، ولا تتقدموا قولا فعلا { بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }: أي: قبل إذنهما { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ }: لقولكم { عَلِيمٌ }: بفعلكم، نزلت في صوم يوم الشك أو النحر قبل الصلاة، أو تنازع الشيخين في حضرته صلى الله عليه وسلم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ }: في المكاملة { فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ }: كراهة { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } إذ في الجهر استخفاف يؤدي إلى الكفر المُحْبط وهو مجاز عن انحطاط المنزلة { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }: بحبطها { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ }: يخْفِضون { أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ }: كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد نزولها { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ }: أخلص { ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }: تخليص الذهب عن الخبث وعن عمر رضي الله عنه: أذهب الشبهات عنها { لِلتَّقْوَىٰ }: لإظهار تقواهم { لَهُم مَّغْفِرَةٌ }: عظيمةٌ { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ }: خارج { ٱلْحُجُرَاتِ }: التي لنسائه عليه الصلاة والسلام كعُيَيْنة، والأقرع التميْمِيّيْن { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }: إذ العقل يقتضي الأدب { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ }: أي: لو ثبت صبرهم { حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ }: الصبر { خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }: لمن تاب { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ }: كالوليد بن عتبة، أرسله عليه الصلاة ولاسلام لأخذ زكاة بني المُصْطلق فاستقبلوه فخافهم لعداوتهم في الجاهلية ورجع وقال: منعوها فهمَّ عليه الصلاة والسلام بعزوهم، فجاءوا منكرين ذلك { فَتَبَيَّنُوۤاْ }: تفحصوا صدقة كراهة { أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا }: بُرَآء { بِجَهَالَةٍ }: جاهلين بهم { فَتُصْبِحُواْ } تصيروا { عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }: أفاد بترتيب الحكم على الفسق، جواز قبول خبر عدل واحد { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ }: على حاله { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ }: كما أشار بعضكم بإيقاعه ببني المصطلق { لَعَنِتُّمْ }: لوَقَعتهم في إثم وجهد، أفهم أنه عليه الصلاة والسلام قد يوافقهم، ويعضده: { وَشَاوِرْهُمْ ... } [آل عمران: 159] إلى آخره { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ }: الكبائر { وَٱلْعِصْيَانَ }: الصغائر، وهذه الكرامة حملتكم على أمره بالإيقاع بهم لما سمعتم قول الوليد، وذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل { أُوْلَـٰئِكَ }: المستثنون { هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ }: إلى الطريق { فَضْلاً } تعليل لكره و"حبب" { مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ }: بخلقه { حَكِيمٌ }: في فعله { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ }: كالأوس والخرزج حين أساء ابن أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاد بإنْ، أنه ينبغي قِلَّته بينهم { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }: بالنصح والدعاء إلى الشرع، جمع للمعني، وثنى للفظ { فَإِن بَغَتْ }: تعدت { إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ }: ترجع { إِلَىٰ أَمْرِ }: حكم { ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ }: قيد به؛ لأنه مظنة الحيف؛ لكونه بعد المقاتلة { وَأَقْسِطُوۤاْ }: اعدلوا { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }: دينا { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }: المتنازعين، خصَّ الاثنين؛ لأنهما أقل المتقابلين ولنزوله في الأوس والخزرج وإيثار الأخوة الغالبة في النسب على الإخوان الغالبة في الصَّداقة للتأكيد { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }: أفادت الآيتان بقاء اسم الإيمان مع البغي { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }: بعد أن عرفتهم أُخْوَّتكم { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ }: كوفد بني تميم { مِّن قَوْمٍ }: كفقراء المسلمين { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ }: عند الله تعالى، والقوم للرجال إلاَّ في التغليب، وخصَّ الجمع؛ لأن السخرية منهم غالبا { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ }: تعيبوا { أَنفُسَكُمْ }: بعضكم بعضا، واللَّمر: الطعن باللسان، أو لا تفعوا ما تستخفونه { وَلاَ تَنَابَزُواْ }: لا يدعوا بعضكم بعضا يما يكرهه، والنَّبْرُ عرفا: سوء اللقب { بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ }: الصفة { ٱلْفُسُوقُ }: من السخرية واللمز والنبز { بَعْدَ ٱلإَيمَانِ }: فإنه يأباها أو أراد تهجين نسبة الفسق إلى المؤمن { وَمَن لَّمْ يَتُبْ }: عنه { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }: ذكر ثلاثة أوصاف كل دون الآخر، إذ السخرية: الاستصغار، ثم اللّمْز الذي هو ذكره بعيب فيه، ثم فيه غيبته ثم النبز الذي هو مجرد تسميته.