التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٥٧
قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٥٨
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ
٥٩
وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٦٠
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦١
-يونس

النهر الماد

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ } الآية، الخطاب بيا أيها الناس عام، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو القرآن، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن.
{ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ } فضل الله الإِسلام والرحمة: القرآن، قاله ابن عباس. وقيل غير ذلك. والظاهر أن قوله: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا جملتان وحذف ما يتعلق به الباء، والتقدير قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد. قال الزمخشري: والتكرير للتأكيد وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف إحدى الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة بمعنى الشرط كأنه قيل: ان فرحوا لشىء فليخصوهما بالفرح فإِنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، ويجوز أن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا. "انتهى". أما إضمار فليعتنوا فلا دليل عليه واما تعليقه بقوله: قد جاءتكم، فينبغي ان يقدر ذلك محذوفاً بعد قل ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر تعالى قل: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ }. وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى الوحي. وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني، وتقدم انها تتعدى لمفعولين فالأول هنا ما من قوله: ما أنزل، وهي موصولة وصلتها انزل، والضمير محذوف تقديره انزله ومن رزق تبيين لما انبهم من لفظ ما، وفجعلتم معطوف على انزل، والمفعول الثاني محذوف تقديره آلله اذن لكم وهي جملة استفهام دل على حذفها قوله: بعد أمر الله تعالى له، قيل آلله أذن لكم. وأم الظاهر أنها متصلة والمعنى أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم فانتم تفعلون ذلك بإِذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه، فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين وهم لا يمكنهم ادّعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم.
{ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ } الآية، ما: استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى أي شىء ظن المفترين يوم القيامة أبهم الأمر على سبيل التهديد والإِيعاد يوم يكون الجزاء بالإِحسان والإِساءة. ويوم: منصوب بظن ومفعول الظن، قيل: تقديره ما ظنهم ان الله فاعل بهم أينجيهم أم يعذبهم.
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ومحاولة الرسول لهم، ذكر فضله تعالى على الناس وان أثرهم لا يشكره على فضله، وذكر اطلاعه تعالى على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم وتلاوة القرآن عليهم وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن. والخطاب في قوله: وما تكون في شأن، وما تتلوا للرسول وهو عام لجميع شؤونه صلى الله عليه وسلم.
{ وَمَا تَتْلُواْ } مندرج تحت عموم شأن واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن، وما: في الجملتين نافية، والضمير في "منه" عائد على شأن.
و{ مِن قُرْآنٍ } تفسير للضمير من العموم لأن القرآن هو أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم.
والخطاب في قوله: { وَلاَ تَعْمَلُونَ } عام.
وكذا: { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } وَوَليَ إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد لأنه قد تقدم إلا فعل، والجملة بعد إلاّ حال وشهوداً رُقَبَاء نحصي عليكم، وإذ: معمولة لقوله شهوداً. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وينسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً وكان المعنى وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي. ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله:
{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ } تشريفاً له وتعظيماً ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض التي هي محل المخاطبين على السماء بخلاف ما في سورة سبأ، وان كان الأكثر تقديمها على الأرض. وقرىء: يعزب بكسر الزاي وكذا في سبأ. والمثقال اسم لا صفة، ومعناه هنا وزن ذرة. والذر: صغار النمل، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثلاً لأقل الأشياء وأحقرها إذْ هي أحقر ما يشاهد.
ثم قال: { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ } أي من مثقال ذرة ولما ذكر أنه لا يعزب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهده ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ثم أتى بقوله: ولا أكبر، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء. ومعلوم أن من علم أَدَق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقاً بأكبر الأشياء وأظهرها. وقرىء: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما أو وجه على أنه عطف على موضع ذرة، أو على مثقال على اللفظ. وقرىء: برفع الراء فيهما. ووجّه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب. وقال الزمخشري: تابعاً لاختيار الزجاج والوجه النصب على نفي الجنس والرفع على الابتداء يكون كلاماً مبتدأ، وفي العطف على محل مثقال ذرة أو لفظة فتحاً في موضع الجر اشكال لأن قوله: لا يعزب عنه شىء إلا في كتاب مشكل. "انتهى".
وإنما أشكل عنده لأن التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب وهذا كلام لا يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره لكن هو في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الاشكال.