التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٦
وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ
٢٧
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٨
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٢٩
فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
٣٠
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ
٣١
قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ
٣٢
قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٣٣
قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
٣٤
وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٣٥
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
٣٦
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ
٣٧
إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ
٣٨
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
٣٩
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ
٤٠
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ
٤١
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
٤٢
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
٤٣
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ
٤٤
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٤٥
ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ
٤٦
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ
٤٧
لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ
٤٨
نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٤٩
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ
٥٠
وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
٥١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
٥٢
قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
٥٣
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
٥٤
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ
٥٥
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ
٥٦
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٧
قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٥٨
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
٥٩
إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٦٠
فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ
٦١
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٦٢
قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ
٦٣
وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٦٤
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
٦٥
وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
٦٦
وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
٦٧
قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ
٦٨
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ
٦٩
قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٧٠
قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
٧١
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
٧٣
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
٧٤
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
٧٥
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ
٧٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
٧٧
وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ
٧٨
فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
٧٩
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٨٠
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٨١
وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ
٨٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ
٨٣
فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٤
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ
٨٥
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨٦
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ
٨٧
-الحجر

النهر الماد

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ } الآية، لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه نبههم على مبدأ أصلهم آدم صلى الله عليه وسلم وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى وتقدم شىء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكره الأمانة والاحياء والرجوع إليه تعالى، وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة وذكر الموازين فيه وفي الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع إبليس ليحذرهم من كيده ولينظر واما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة التي هي مقر السعادة والراحة إلى الأرض التي هي مقر التكليف والتعب فيحترزوا من كيده.
الصلصال، قال أبو عبيدة: الطين، إذا خلط بالرمل وجف والحماطين أسود منتن واحده حماة بتحريك الميم. وقال ابن عباس: المسنون الرطب، ومعناه المصبوب لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب فكني عن المصبوب بوصفه لا أنه موضوع.
والسموم قال ابن عباس: الريح الحارة التي تقتل وعنه نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق ومعنى.
{ سَوَّيْتُهُ } أكملت خلقه والتسوية عبارة عن الإِتقان وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت له.
{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } أي خلقت الحياة فيه ولا نفخ هناك ولا منفوخ حقيقة وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يجيء به فيه وإضافة الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو بيت الله وناقة الله أو الملك إذ هو المتصرف في الإِنشاء للروح والمودعها حيث يشاء.
{ فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } أي اسقطوا على الأرض وحرف الجر محذوف من أن أي مالك في أن لا يكون وأي داع دعا بك إلى أبائك السجود ولا سجد اللام لام الجحود والمعنى لا يناسب حالي السجود له وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي رأى نفسه أكبر من أن يسجد وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما وهنا نبه على مادة آدم وحده وهنا فأخرج منها وفي الأعراف فاهبط منها وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها.
و{ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ما مصدرية وهنا أقسم بالاغواء وفي مكان آخر قال: فبعزتك فيكون ذلك في محاورتين.
و{ لأُزَيِّنَنَّ } جواب القسم.
و{ لَهُمْ } ضمير يعود على ما يفهم من الكلام وهم ذرية آدم صلى الله عليه وسلم.
{ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ } الإِشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي الإِخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل لأن من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه قيل ولما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى: (هذا أمر مصيره إلي) ووصفه بالاستقامة. أي هو حق وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليس لك والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك وقرأ الجمهور على جاراً أو مجروراً ويتعلق بقوله: مستقيم. أي مستقيم على إرادتي وحكمي. وقرأ يعقوب على وزن فعيل وهو صفة لقوله: صراط، والإِضافة في قوله: ان عبادي. إضافة تشريف ان المختصين بعبادتي وعلى هذا لا يكون قوله: الا من اتبعك، استثناء متصلاً بل يكون منقطعاً بمعنى لكن من اتبعه لم يدرج في قوله: ان عبادي. وان كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون إلا من اتبعك استثناءً متصلاً لاندراجه في عموم العباد ومن في من الغاوين لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين.
قال ابن عطية: وأجمعين تأكيد وفيه معنى الحال "انتهى".
هذا جنوح لمذهب من يزعم أن أجمعين يدل على اتحاد الوقت والصحيح أن مدلوله مدلول كلهم والظاهر أن جهنم هي واحدة.
و{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } قيل أعلاها للموحدين والثاني لليهود.
والثالث: للنصارى.
والرابع: للصابئين.
والخامس: للمجوس.
والسادس: للمشركين.
والسابع: للمنافقين.
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الآية، لما ذكر تعالى ما أعد لأهل الجنة ليظهر تباين ما بين الفريقين.
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم } تقدم شرحه في الاعراف وانتصب إخواناً على الحال وهي حال من الضمير المجرور في صدورهم والحال من المضاف نادرة وقد تأول نصبه على غير الحال من الضمير المجرور.
{ عَلَىٰ سُرُرٍ } جمع سرير وعلى سرر ومتقابلين حالان والقعود على السرير دليل على الرفعة والكرامة التامة.
وعن ابن عباس على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر.
{ مُّتَقَـٰبِلِينَ } متساويين في التواصل والتوادد.
{ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } أي تعب مما يقاسونه في الدنيا وإذا انتفى المس انتفت الديمومة وأكد انتفاء الإِخراج بدخول الباء في بمخرجين ومنها متعلق بمخرجين ولما تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة أكد تعالى تنبيئه الناس وتقرير ذلك وتمكينه في النفوس بقوله:
{ نَبِّىءْ عِبَادِي } وناسب ذكر الغفران والرحمة اتصال ذلك بقوله: ان المتقين. وتقديماً لهذين الوصفين العظيمين اللذين وصف بهما نفسه تعالى وجاء قوله:
{ وَأَنَّ عَذَابِي } في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة وأنى المعذب المؤلم كل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة. وسدت أن مسد مفعولي نبىء ان قلنا انها تعدت إلى ثلاثة وسد واحد ان قلنا انها تعددت إلى اثنين.
{ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } الآية، لما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار. والطائعين من الجنة ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ليزدجروا عن كفرهم وليعتبروا بما حل بغيرهم فبدأ بذكر جدّهم الأعلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وما جرى بقوم ابن أخيه لوط عليه السلام ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط وتقدّم الكلام عليه في سورة هود ونبئهم عدي نبئهم بحرف الجر وهو عن ولم يذكر لها مفعولاً ولا مفعولين وسلاماً مقتطع من جملة محكية بقالوا فليس منصوباً به والتقدير سلمت سلاماً من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية وقيل سلاماً نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولاً سلاماً وتصريحه هنا بأنه وجل منهم كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ وامتناعهم من الأكل وفي هود فأوجس في نفسه خيفة فيمكن أن هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة ويحتمل أن يكون القول هنا مجازاً بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل.
{ إِنَّا نُبَشِّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، بشروه بأمرين.
أحدهما أنه ذكر والثاني وصفه بالعلم على سبيل المبالغة واستنكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ان يولد له مع الكبر وفيم تبشرون تأكيد استبعاد وتعجب وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة، رسل الله تعالى إليه فلذلك استفهم واستنكر أن يولد له ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر ولا سيما وقد رأى من آيات الله عياناً كيف أحيا الموتى. وبالحق أي باليقين الذي لا ريب فيه وقولهم: فلا تكن من القانطين نهيٌ والنهي عن الشىء لا يدل على التلبس بالمنهي عنه ولا بمقاربته وقوله:
{ وَمَن يَقْنَطُ } رد عليهم وإن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط بل ذلك على سبيل الاستبعاد لبما جرت به العادة وفي ذلك إشارة إلى أن هبة الولد على الكبر من رحمة الله إذ يشد عضد والده ويؤازره حالة كونه ولا يستقل ويرث منه علمه ودينه.
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } الآية، لما بشروه بالولد وراجعوه في ذلك علم أنهم ملائكة الله ورسله فاستفهم بقوله: فما خطبكم والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد فإضافة إليهم من حيث أنهم هم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين وذكر إلى قوم مجرمين فأبرزه في صورة النكرة وان كان أريد به معيّنون يدل على ذلك قولهم في سورة هود:
{ { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } [الآية: 70] فعينهم، وإنما نكر هاهنا على سبيل الاستهانة بهم وإن كانوا معينين من جهة المعنى فقوله: إلا آل لوط، استثناء نكرة في الظاهر ولكنهم معينون في المعنى وكثيراً ما تأتي النكرة يراد بها التعين كقول من صحب رجلاً عالماً معيناً فيقول: لقد صحبت رجلاً عالماً.
{ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } استثناء من الضمير المنصوب في منجوهم قال الزمخشري: فإِن قلت فقوله: إلا امرأته، مما استثنى وهل هو استثناء من استثناء * قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وليس من الاستثناء من الاستثناء في شىء لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وان يقال أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهم فاما في الآية فقد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين ولا امرأته قد تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناء من استثناء "انتهى".
لما استسلف الزمخشري ان إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء ومن قال انه استثناء من استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين أحدهما: أنه كان الضمير في لمنجوهم عائداً على آل لوط وقد استثنى منه المرأة فصار كأنه مستثنى من آل لوط لأن المضمر هو الظاهر في المعنى والوجه الآخر أن قوله إلا آل لوط لما حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم في قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيد المعنى الاستثناء إذ المعنى إلا آل لوط فلم يرسل عليهم بالعذاب ونجاتهم مترتبة على عدم الإِرسال إليهم بالعذاب فصار نظير قولك قام القوم إلا زيداً فإِنه لم يقم أو إلا زيداً لم يقم فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه فالأمر أنه على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء للتأكيد وجاء الضمير في أرسلنا وفي أنا وفي قدرنا مسند إلى الملائكة لأنهم هم المأمورون بإِهلاكهم ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم وخاف أن يطرقوه بشر وبل إضراب عن قول محذوف أي ما جئناك لشىء تخافه بل جئنا بالعذاب لقومك إذ كانوا يمترون فيه أي يشكون في وقوعه فيجادلونك فيه تكذيباً لك بما وعدتهم به عن الله تعالى.
{ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } نهاه أولاً عن الإِلتفات وأمره باتباع أدبارهم ويكون ذلك أحفظ لهم من أي ينزل ساقة خلفه وحيث تؤمرون.
قال ابن عباس: هي الشام ولما ضمن قضينا معنى أوحينا تعدت تعديها بإِلى أي وأوحينا إلى لوط مقضياً مبتوتاً والإِشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه وان دابر تفخيم للأمر وتعظيم له وهو في موضع نصب على البدل من ذلك.
و{ مُّصْبِحِينَ } داخلين في الصباح.
{ وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } الآية استبشارهم فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط صلى الله عليه وسلم والظاهر ان هذا المجيء ومجاورة لوط مع قومه في حق أضيافه وعرضه بناته عليهم كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله ولذلك سماهم ضيفاً وخاف الفضيحة منهم لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح وقد جاء ذلك مرتباً هكذا في سورة "هود" والواو لا ترتب ولا تخزون من الخزي وهو الإِذلال أو من الخازية وهو الاستحياء وفي قولهم:
{ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ } دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف أو يجير أحداً أو يدفع عنه أو يمنع بينهم وبينه فإِنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان هو عليه السلام يقوم بالنهي عن المنكر والحجز بينه وبين من تعرض له فأوعدوه بأنه لم ينته خرجوه وتقدم الكلام في قوله تعالى: { بَنَاتِي } ومعنى الإِضافة في هود وإن كنتم فاعلين شك قبولهم لقوله كأنه قال: ان فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: ان كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم. واللام في لعمرك لام الابتداء وعمرك مبتدأ خبره محذوف تقديره لعمرك قسمي وإذا كان في القسم كانت العين مفتوحة ومعناها البقاء وجواب القسم فقيل القسم من الملائكة خطاباً للوط صلى الله عليه وسلم وقيل خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكني عن الضلالة والغفلة بالسكر أي تحيرهم في غفلتهم وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به والصيحة صيحة الهلاك ومشرقين داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس وقيل أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس فكان تمام الهلاك عند ذلك والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدمة الذكر.
{ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتفرسين وعن ابن عباس هم أهل الصلاح والخير.
{ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } أي ممر ثابت وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس وهو تنبيه لقريش.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلاً لمن آمن بالله تعالى.
{ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ } هم قوم شعيب والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجرة السدوم وقيل غير ذلك كفروا فسلط الله عليهم الحر وأهلكوا بعذاب الظلة ويأتي ذلك مستوفى في سورة الشعراء.
{ وَإِنَّهُمَا } الضمير يعود على أصحاب الأيكة ومدين لأنه مرسل إليهما فدل ذكر أحدهما على الآخر فعاد الضمير إليهما.
{ لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي بطريق من الحق واضح والإِمام الطريق.
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ } الآية، أصحاب الحجر ثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم والحجر أرض بين الحجاز والشام وتقدمت قصته في الأعراف مستوفاة والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً لأن من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً وتقدم ذكر قصتهم في الأعراف ويأتي أيضاً بعض خبرهم.
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } الآية، أي خلقاً ملتبساً بالحق لم يخلق شىء من ذلك عبثاً ولا هملاً بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى ولذلك نبه من يتنبه بقوله: وان الساعة لآتية فيجازي من أطاع ومن عصى.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً } الآية، والمثاني جمع مثناة والمثناة كل شىء أي يجعل اثنين من قولك ثنيت الشىء ثنيا أي عطفته وضممت إليه آخر وهذا مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بديل فنفصل جوز الزجاج أن تكون أم القرآن سميت السبع المثاني لأنها يثنى بها على الله قال ابن عطية: وفي هذا القول من جهة التصريف نظر "انتهى".
لا نظر في ذلك لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعياً أي مقر ثناء على الله أي فيها ثناء على الله.
وقال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم: السبع هنا آيات الحمد قال ابن عباس: وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم.
وقال غيره: سبع دون البسملة.
وقال أبو العالية: لقد أنزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شىء.