التفاسير

< >
عرض

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
٣٣
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً
٣٤
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
٣٥
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ
٣٦
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
٤١
ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي
٤٢
ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
٤٣
فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ
٤٤
قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ
٤٥
قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
٤٦
فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ
٤٧
-طه

النهر الماد

{ كَيْ نُسَبِّحَكَ } أي ننزهك عما لا يليق بك.
{ وَنَذْكُرَكَ } بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص ومحل ذلك القلب والذكر الثناء على الله تعالى بصفات الكمال ومحله اللسان فلذلك قدّم ما محله القلب * وكثيراً نعت لمصدر محذوف.
{ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } أي عالماً بأحوالنا والسؤل فعل بمعنى المسؤول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسير الأمر وحل العقدة وجعل أخيك وزيراً وذلك من المنة عليه ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته * ومرة معناه منة وأخرى تأنيث أخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة.
{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ } قال الجمهور: هو وحي إلهام كقوله تعالى:
{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68] وقيل وحي إعلام إما بإراءة ذلك في المنام وامّا ببعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعثه إلى مريم وهذا هو الظاهر لظاهر قوله: يأخذه عدو لي وعدو له ولظاهر آية القصص { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7] * وان يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي: لأنه تقدم أوحينا وهو بمعنى القول ويحتمل أن تكون مصدرية وصلت الأمر * التابوت كان من خشب سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً وقطناً محلوجاً وسرت فمه وجصصته وألقته في اليم وهو اسم للبحر العذب والظاهر أن الضمير في:
{ فَٱقْذِفِيهِ } عائد على موسى وكذلك الضمير ان بعده إذ هو المحدث عنه لا التابوت إنما ذكر التابوت على سبيل الوعاء والفضلة.
{ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ } إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به وكان البحر مأمور متمثل للأمر.
{ يَأْخُذْهُ } جواب الأمر الذي هو فليقله والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه والعدو الذي لله ولموسى هو فرعون وأخبرت به أم موسى على طريق الإِلهام ولذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين استقر.
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } قيل محبة آسية وفرعون وكان فرعون أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه وكذا من رآه ومني يجوز أن يكون متعلقاً بألقيت ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف تقديره كائنة مني وقرأ الجمهور: ولتصنع بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشىء بعينه إذا اعتنى به وهو معطوف على محذوف أي ليتلطف بك ولتصنع أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك.
{ إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ } قيل إسمها مريم * قيل سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفيتش في المدينة لعلها تقع على خبره فبصرت به في طوافها فقالت: أنا أدلكم على من يكفله لكم وهم له ناصحون فتعلقوا بها وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبي فقالت: لا ولكني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى عليه السلام فلما قربته شرب ثديها فسرت آسية بذلك وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت: ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي، قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإِحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالهدايا والتحف واللباس فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شأن فسرت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقربه إليه فأخذ موسى عليه السلام بلحيته وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة * وإذ بدل من إذ في قوله: إذ أوحينا فالعامل فيها مشى وقرىء: تقر بكسر القاف وتقدم أنهما لغتان في قوله:
{ { وَقَرِّي عَيْناً } [مريم: 26] وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول.
{ وَقَتَلْتَ نَفْساً } هو القبطي الذي استغاثه عليه الإِسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة واغتم بذلك خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له ذلك باستغفاره حين قال:
{ { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي } [القصص: 16] ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغم ما يغم على القلب بسبب الخوف من القتل * وفتوناً مصدر وفتناك خلصناك من محنة إلى محنة ولد في عام كان يقتل فيه الولدان وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله وقتل قبطياً فخرج خائفاً إلى أهل مدين فلبث سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ثم ثمانية عشرة عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب وولد له فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.
{ ثُمَّ جِئْتَ } أي المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك.
{ عَلَىٰ قَدَرٍ } أي وقت معين قدرته لم تتقدم ولم تتأخر عنه.
{ وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإِجمال والإِحسان وأخلصتك بالالطاف واخترتك لمحبتي يقال اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعه وهو افتعال من الصنع وهو الإِحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان.
{ ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } أمره الله أولاً بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان منهما أن يشرك أخاه هارون فذكر الله عالى أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه فأمره هنا وأخاه بالذهاب * وأخوك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بأنت وتقدم الكلام على نظيره في قوله:
{ { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } [الآية: 24] في المائدة وظاهر بآياتي الجمع فقيل هي العصا واليد وحل عقدة لسانه.
{ وَلاَ تَنِيَا } أي لا تفترا ولا تقصرا والوني الفتور يقال ونايني ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني فقيل.
{ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } أي بالرسالة ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله:
{ إِنَّهُ طَغَىٰ } أي مجاوزاً الحد في الفساد ودعواه الربوبية والألوهية من دون الله.
{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } القول اللين هو مثل ما في سورة النازعات هل لك إلى أن تزكى الآيات وهذا من لطيف الكلام إذا أبرز ذلك في صورة الاستفهام والعرض لما فيه من الفوز العظيم.
{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه وقوله: يتذكر حالة نشأته صغيراً وأنه حدث بعد أن لم يكن موجوداً.
{ أَوْ يَخْشَىٰ } عقاب الله في دعواه الربوبية وفرط سبق ومنه الفارط السابق والمعنى أننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها أو أن يطغى في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك وقسوة قلبه وفي المجيء به هكذا على سبيل الإِطلاق والرمز باب من حسن الأدب وتجاف عن التفوه بالعظيمة.
{ إِنَّنِي مَعَكُمَآ } المعية هنا بالنصرة والعون.
{ أَسْمَعُ } أقوالكما.
{ وَأَرَىٰ } أفعالكما وقال ابن عباس: أسمع جوابه لكما وأرى ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم.
{ فَأْتِيَاهُ } كرر الأمر بالإِتيان.
{ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } وخاطباه بقولكما ربك تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدعي الربوبية وأمراً بدعواته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شىء مع قتل الولدان واستخدام النساء وقد ذكر في هذه الآية دعاءه إلى الإِيمان فجملة ما دعي إليه فرعون الإِيمان وإرسال بني إسرائيل ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا:
{ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } وتكرر أيضاً قولهما من ربك على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما قد جئناك بآية من ربك جارية من الجملة الأولى وهي انا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا يثبت الدعوى برهانها وكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك قد جئتكم ببينة من ربكم فائت بآية ان كنت من الصادقين.
{ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } مندرج متصل بقوله انا قد أوحي إلينا فيكون إذ ذاك خبراً بسلامة المهتدين من العذاب وفيه تنبيه على أن فرعون ليس من اتبع الهدى.