{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } أبهم العذاب الشديد وفي تعيينه أقوال مضطربة فمنها أنه يحشره مع غير جنسه والسلطان المبين الحجة والعذر وفيه دليل على الاغلاظ على العاصين وعقابهم وبدأ أولاً بأخف العقابين وهو التعذيب ثم أتبعه بالأشد وهو إذهاب المهجة بالذبح وأقسم على هذين لأنهما من فعله وأقسم على الإِتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم باه كأنه قال ليكونن أحد هذه الثلاثة والمعنى ان أتى بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإلا كان أحدهما * والظاهر أن الضمير في مكث عائد على الهدهد أي غير زمن بعيد أي عن قريب ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخراً له ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله تعالى وكان فيما روي قد أعلم بما أقسم به سليمان فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له.
{ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } وفي هذا جسارة من لديه علم لم يكن عند غيره وتبجحه بذلك وإبهام حتى تتشوق النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو ومعنى الإِحاطة هنا أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان عليه السلام قال الزمخشري: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإِحاطة بالمعلومات الكثيرة إبتلاء له في علمه وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به لتتحاقد إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفاً له في ترك الإِعجاب الذي هو فتنة للعلماء وأعظم بها فتنة والإِحاطة بالشىء علماً أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم قالوا وفيه دليل على بطلان قول الرافضة ان الإِمام لا يخفى عليه شىء ولا يكون في زمانه أحد علم منه "انتهى" ولما أبهم في قوله: بما لم تحط به انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً وهو قوله:
{ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه وأنه له علم بخبر مستيقن له وقرىء فمكث بضم الكاف وفتحها وذكر أن مثل سبأ بنبأ يسمى تجنيس التصريف قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ومنه قول ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ولفظ بناء لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ولفظ الخبر مطلق فيطلق على ماله شأن وما ليس له شأن ولما أبهم الهدهد أولاً ثم أبهم ثانياً دون ذلك الإِبهام صرح بما كان أبهمه فقال:
{ إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } ومعنى وجدت هنا أصبت والضمير في تملكهم عائد على سبأ إن كان أريد به القبيلة وإن أريد الموضع فهو على حذف مضاف أي وجئتك من أهل سبأ والمرأة بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك اليمن كلها وقد ولده أربعون ملكاً ولم يكن له ولد غيره فغلبت على الملك وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس.
{ مِن كُلِّ شَيْءٍ } هذا على سبيل المبالغة والمعنى من كل شىء احتاجت إليه أو من كل شىء في أرضها.
{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } قيل كرسيها وكان مرصعاً بالجواهر وما أحسن ائتلافات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان تحصناً من العقوبة برتبة العلم الذي حصلت له فتشوق السامع إلى ذلك ثم أخبر ثانياً بمتعلق ذلك العلم وهو أنه من سبأ وأنه أمر متقين لا يشك فيه فزاد تشوق السامع إلى سماع ذلك النبأ ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة وكان سليمان قد سأل الله تعالى أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الاشتراك وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا من شأن النساء أن تملك فحول الرجال وهو قول وأوتيت من كل شىء وقوله ولها عرش عظيم وكان سليمان له بساط قد صنع له وكان عظيماً ولم يتأثر سليمان للإِخبار بهذا كله إذ هو أمر دنياوي أخبره خامساً بما يهزه لطلب هذه الملكة ودعائها إلى الإِيمان بالله تعالى وإفراده بالعبادة فقال:
{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } وقرىء إلا بالتخفيف وهو حرف استفتاح وياء للتنبيه واسجدوا فعل أمر وقرىء ألا بالتشديد وهي أدغمت نونها في لا التي للنفي ويسجدوا فعل مضارع منصوب بأن والمعنى فهم لا يهتدون لنفي سجودهم لله تعالى أي الحامل لهم على انتفاء الهداية إنتفاء سجودهم لله تعالى لأن الذنب يجر الذنب فلما انتفى عنهم السجود انتفت الهداية وفي البحر إعراب يوقف عليه فيه * والخبء مصدر أطلق على المخبوء وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه الله تعالى من غيوبه * والظاهر أن في السماوات متعلق بالخبء أي المخبوء في السماوات * والظاهر أن قوله ألا يسجدوا إلى العظيم من كلام الهدهد ولما فرغ الهدهد من كلامه وأبدى عذره في غيبته أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه فقال:
{ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ } والنظر هنا التأمل والتصفيح وأصدقت جملة معلق عنها سننظر وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر بمعنى التأمل والتفكر إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في وعادل بين الجملتين بأم ولم يكن التركيب أم كذبت لأنه كان ثم كذابون وفي الكلام حذفت تقديره فأمر بكتابة كتاب إليهم وبذهاب الهدهد رسولاً إليهم بالكتاب فقال إذهب بكتابي هذا أي الحاضر المكتوب الآن فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول وفي قوله إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم دليل على إرسال الكتب للمشركين من الإِمام يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإِسلام وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب وقال وهب أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريباً بحيث تسمع مراجعتهم * ومعنى فانظر ماذا يرجعون أي تأمل واستحضره في ذهنك وقيل معناه فانتظر وماذا إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر كان أنظر معلقاً * وما داما كلمة استفهام في موضع نصب وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي فعلى الأول يكون يرجعون خبراًعن ماذا وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر * ويرجعون صلة ذا وإذا كان معنى فانظر فانتظر فليس فعل قلب فيعلق بل يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي أي فانتظر الذي يرجعون والمعنى فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول وفي الكلام حذف تقديره فذهب وألقى الكتاب وتفكر فيما يرجع به إليه.
{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } الآية فقيل ان الهدهد ألقى الكتاب من كوة كانت في القصر وتوارى فيها فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها وكانت قارئة عربية من قوم تبع.
{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ } وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم وفي الحديث كرم الكتاب ختمه أو لكونه من سليمان وكانت عالمة بملكه ثم أخبرتهم فقالت:
{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } كأنها قيل لها ممن الكتاب وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت أبهمت أولاً ثم فسرت وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقى حيث حذفته أو تحقيراً له حيث كان طائراً إن كانت شاهدته والظاهر أن بداءة الكتابة من سليمان بسم الله الرحمن الرحيم إلى آخر ما قص الله منه خاصة وأن من:
{ أَلاَّ تَعْلُواْ } مفسرة ولا تعلو فهي لمشاكلة عطف الأمر عليه ولما قرأت على الملأ الكتاب ورأت ما فيه من الأمر بالانتقال إلى سليمان استشارتهم في أمرها وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام والمراد هنا أشيروا علي بما عندكم فيما حدث لها من الرأي السديد والتدبير وقصدت بإِشارتهم واستطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالؤها ويقوموا معها.
{ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً } أي مبرمة وفاصلة أمراً.
{ حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } أي تحضروا عندي فلا أستبد بأمر بل تكونون حاضرين معي وما كنت قاطعة أمراً عام في كل أمر أي إذ كانت عادتي هذه معكم فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعاً فراجعها الملأ بما أقر عينها من قولهم نحن أولو قوة أي قوة بالعدة والعدد.
و{ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي أصحاب شجاعة وخبرة ثم قالوا.
{ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } وذلك من حسن محاورتهم إذ وكلوا الأمر إليها وفيه دليل على الطاعة المفرطة أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ومع ذلك فالأمر موكول إليك كأنهم أشاروا أولاً بالحرب أو أرادوا نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن فانظري ماذا تأمرين به نرجع إليك ونتبع رأيك وفانظري من التأمل والتفكر وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى أي تأمريننا به والجملة معلق عنها أنظري فهي في موضع مفعول لأنظري بعد إسقاط الحرف من إسم الإِستفهام ولما وصل إليها كتاب سليمان لا على يد رجل بل على طائر استعظمت ملك سليمان وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت:
{ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } أي تغلبوا عليها.
{ أَفْسَدُوهَا } أي خربوها بالهدم والحرق والقطع وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب وخوف عليهم وحياطة لهم واستعظام لملك سليمان عليه السلام وجاء لفظ الهدية مبهماً وقد ذكروا في تعيينها أقوالاً مضطربة وذكروا من حليها في الهدية ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية وكلامه مع رسلها ما الله أعلم بصحته.