التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٥٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٥٥
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١٥٦
-آل عمران

النهر الماد

{ أَمَنَةً } الامنة: إلا من. وقرىء بسكون الميم والظاهر أن أمنة مفعول أنزل.
و{ نُّعَاساً } بدل منه ويجوز أن يكون أمنة مفعولاً من أجله ونعاساً مفعول من أنزل أي أنزل النعاس لأجل أمنكم لأن النعاس لا يكون معه خوف ولهذا قال في الأنفال:
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } [الآية: 11]، أي ليؤمنكم به.
{ يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } هم المؤمنون وعليكم عام مخصوص به والنعاس الذي غشيهم كان حين ارتحل أبو سفيان وتركوا ركوب الخيل وجنبوها ركبوا الابل تاركين للقتال.
{ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } هم المنافقون لم يلق الله عليهم النعاس، وطائفة مبتدأ وجاز الابتداء به لأنه نكرة والمكان مكان تفصيل، والواو للحال وهي من مسوغات الابتداء بالنكرة قد أهمتهم يقال: أهمني الشيء أي كان من همي وقصدي أي مما أهم به وأقصده وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم.
و{ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ } لم يتعد إلى اثنين والباء في بالله ظرفية بمعنى في كما قال: فقلت لهم ظنوا بالفي مذحج. والمعنى يوقعون ظنهم في الله أي في حكم الله وما قدره ظناً.
{ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } فغير صفة لمصدر محذوف.
و{ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ } بدل منه. ومعنى الجاهلية: الملة التي كانت قبل ملة الاسلام كما قال: حميّة الجاهلية.
{ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } معناه النفي ومعنى أن الأمر أي من الخروج إلى القتال والرأي.
{ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } أي أن تصاريف الوجود وما يجري فيه لله تعالى لا لغيره. وقرىء كله توكيداً لقوله: الأمر. ولله خبر انّ. وقرىء كله بالرفع مبتدأ وخبره لله والجملة في موضع رفع خبر انّ.
{ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم } قال الزبير: والله لكأنّي أسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ومعتب هذا شهد بدراً وكان مغموصاً عليه بالنفاق.
{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ } قارّين وأراد الله قتل من قتل منكم.
{ لَبَرَزَ } والمضجع مكان قتله.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } قرأها عمر على المنبر فقال: لما كان يوم أحد وهزمنا ففرت حتى صعدت الجبل فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي والناس يقولون: قتل محمد، فقلت: لا أجد أحداً يقول قتل محمد إلا قتلته حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت هذه الآية كلها.
{ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ } أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه هكذا قالوه ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله. فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى [افعل فيكون المعنى] أزلهم الشيطان فيدل على حصول الزلل ويكون استزل وأزل بمعنى واحد كاستبان وأبان واستبلّ وأبلّ. { وَقَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض.
{ لإِخْوَانِهِمْ } أي لأجل إخوانهم.
{ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ } والاخوان هنا إخوان النسب أو إخوان التأليف. وإذا ظرف مستقبل لا يمكن أن يعمل فيه قالوا لمضيّه. قال الزمخشري: فإِن قلت: كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا؟ قلت: هو حكاية الحال الماضية كقولك: حين يضربون في الأرض، وقال ابن عطية: دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ومن يقول في المستقبل ومن حيث هذه النازلة فتصور في مستقبل الزمان وهذان القولان ضعيفان والذي يظهر أن العامل في إذا مضاف محذوف يدل عليه المعنى تقديره لأجل فراق إخوانهم إذا ضربوا في الأرض لتجارة وغيرها فماتوا.
{ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فقتلوا. ويدل على المحذوف قوله: { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } أي لو كانوا مقيمين عندنا ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا جعلوا الضرب في الأرض سبباً للموت والغزو سبباً للقتل. وغزا جمع غاز غزاة وعفاة وقرىء غزا جمع على فعل شذوذا وأصله غزو، كما قالوا: عاف وعُفّا، والقياس بتخفيف الزاي ووجّه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً. وقيل: حذفت التاء وأصله غزاة. وقال ابن عطية: هذا الحذف كثير في كلامهم وأورد من ذلك الابّو والبنوّ جمع أب وابن، كما قالوا: عم وعمومة ثم حذفوا التاء فقالوا: عموم. "انتهى". ملخصاً وليس أبو وبنو مما حذفت منه التاء لأنهما مصدران لا جمعان وأبو وبنو جمعان على وزن فعول، كما قالوا: بُهُوٌ ونُهُوٌ وكان القياس الاعتلال فيقال: ابيّ وبُنيّ وبهيّ، كما قالوا: عصاً وعصيٌ وأما الحذف الذي ادعاه في عموم من ان أصله عمومة فقول لم يذهب إليه نحوي وكذا ما ادعاه في غزا وان أصله غزاة عنده، فلا يجوز أن يقال في رماة رمى ولا في قضاة قضى ولا في ماش مشى.
{ لِيَجْعَلَ } لا يصح أن يكون ذلك تعليلاً لقولهم وإنما قالوا ذلك تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد، ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو لا تكونوا كالذين كفروا لأن جَعْلَ الله ذلك حسرة في قلوبهم لا يكون سبباً لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار، قاله الزمخشري. وقد أورد سؤالاً عما يتعلق به ليجعل قال أو لا تكون بمعنى ولا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. انتهى كلامه وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم توافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فلا يضربوا في الأرض ولا يغزوا فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة. وقال ابن عيسى وغيره: اللام متعلقة بالكون أي لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم. "انتهى". ومنه أخذ الزمخشري قوله لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام وهو لم ينص وقد بينا فساد هذ القول وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا والمعنى أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة إنما قالوا ذلك لعلة فصار مآل ذلك الحسرة والندامة ونظر بقوله:
{ { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8]، ولم يلتقطوه لذلك إنما آل أمره إلى ذلك، والإِشارة بذلك فيه اختلاف كثير مذكور في البحر، والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإِشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا وإن اللام للصيرورة والمعنى أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والأبعاد في الأرض سواء كانوا معتقدين صحتها أم لم يكونوا معتقديها إذ كثير من الكفار قائل بأجل واحد فخاب هذا القصد وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد. والحسرة: الغم الذي يلحق على ما فات من بلوغ المقصد. وقرىء بما تعملون بالتاء وبالياء.