التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٨٠
لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
١٨١
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
١٨٢
-آل عمران

النهر الماد

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بلغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب. وقرىء ولا تحسبن بالتاء فيكون الذين أول مفعولين لتحسبن وهو على حذف مضاف أي بخل الذين. وقرىء بالياء والفعل مسند إلى ضمير أحد فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره بخلهم وحذف لدلالة يبخلون عليه وحذفه عزيز جداً عند الجمهور فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف وهو فصل، وخيراً المفعول الثاني ليحسبن، ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية وهو أن تكون المسألة من باب الأعمال إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين وذلك أن يحسبن يطلب مفعولين ويبخلون بيطلب مفعولاً بحرف جر فقوله: ما آتاهم بطلبه يحسبن على أن يكون المفعول الأول ويكون هو فصلاً وخيراً المفعول الثاني، ويطلبه يبخلون متوسط حرف الجر. فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون فعدى بحرف الجر وأخذ معموله وحذف معمول يحسبن الأول ونفى معموله الثاني لأنه لم يتنازع فيه إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول وساغ حذفه وحده كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه متى رأيت أو قلت زيد منطلق لأن رأيت. وقلت في هذه المسألة: تنازعاً زيد منطلق وفي الآية لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد وتقدير المعنى ولا يحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ظن هذا الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة فالذي تنزعه الفعلان هو الاسم الأول فاعمل الثاني وبقي الأول يطلبه محذوفاً ويطلب المفعول الثاني مثبتاً إذ لم يقع فيه التنازع، ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم وكان تحت الانتفاء قسمان: أحدهما أن لا خير ولا شر، والآخر: إثبات الشر، أتى بالجملة التي تعني أحد القسمين وهو إثبات كونه شراً لهم.
{ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } هذا تفسير لقوله: { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ }. والظاهر حمله على المجاز أي سليزمون عقابه الزام الطوق.
{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ } الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء حاوره أبو بكر في الاسلام وأن يقرض الله قرضاً حسناً، فقال: هذه المقالة، فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد. فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر. ما قال فنزلت تكذيباً لفنحاص وتصديقاً للصديق رضي الله عنه. قال ابن عباس: وشمل قوله: الذين قالوا فنحاصاً، ومن قال بمقالته كحيّ بن أخطب والياس بن عمرو.
{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة فتكتب الأعمال في صحف وان تلك الصحف هي التي توزن ويحدث الله الثقل فيها والخفة. وقيل: الكتابة مجاز ومعناها الاحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله مثبتاً محفوظاً لا ينسى كما يكتب المكتوب. وقرىء سنكتب بالنون وقتلهم نصباً ونقول بالنون. وقرىء سيكتب مبنياً للمفعول وقتلهم رفعاً ويقول بالياء، ولما كان الصادر منهم قولاً وفعلاً ناسب أن يكتب الجزاء قولاً وفعلاً فتضمن القول والفعل، قوله: ونقول ذوقوا عذاب الحريق وفي الجمع لهم بين القول والفعل أعظم انتقام ويقال للمنتقم فيه أخْسَ وذق.
{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } الإِشارة إلى ما تقدم من عقابهم ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال فكان كل عمل واقع بها. وهذه الجملة داخلة في المقول وبّخوا بذلك وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب.
{ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } هذا معطوف على قوله: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ }، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم وعدل الله فيكم وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير وهذا تكثير بسبب المتعلق.