التفاسير

< >
عرض

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٩
يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً
٢٠
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً
٢١
وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
٢٥
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
٢٦
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢٧
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٢٨
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
٢٩
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً
٣١
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٣٢
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً
٣٣
-الأحزاب

النهر الماد

{ أَشِحَّةً } جمع شحيح وهو البخيل وهو جمع لا ينقاس وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام أفعلاء نحو خليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضاً والصواب أن يعم شحهم بكل ما فيه منفعة للمؤمنين فإِذا جاء الخوف من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة لاذ هؤلاء المنافقون بك * ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر الذي يغشى عليه من الموت * وتدور في موضع الحال أي دائرة أعينهم.
{ كَٱلَّذِي } في موضع الصفة لمصدر محذوف وهو مصدر مشبه أي دوراناً كدوران عين الذي يغشى عليه فبعد الكاف محذوفان وهما دوران وعين.
{ سَلَقُوكُمْ } أي بسطوا ألسنتهم فيكم.
{ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } إشارة إلى ما حصل للمؤمنين من الظفر والغنيمة.
{ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } إشارة إلى المنافقين أي لم يكن لهم قط إيمان والإِحباط عدم قبول إيمانهم فكأنها محيطة قال الزمخشري: فإِن قلت هل ثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإِحباط قلت لا ولكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإِيمان إلخ "انتهى" وفي كلامه عسى صلة لمن وهو لا يجوز.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } جملة في موضع المفعول الثاني ليحسبون أي هم من الجزع بحيث هزم الله الأحزاب فرحلوا وهم يحسبون أنهم لم يرحلوا.
{ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } كرة ثانية تمنوا لخوفهم بما منوا به هذه الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب وهم أهل العمود يرحلون من قطر إلى قطر.
{ يَسْأَلُونَ } من قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقاً وجبناً وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا إلا قليلاً لعله رياءً وسمعة.
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الظاهر من قوله لكم عموم الخطاب للمؤمن ولمن يظهر الإِيمان والأسوة القدوة وقرىء بضم الهمزة وكسرها ولمن بدل من قوله لكم بدل بعض من كل فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ولا عن مكان هو فيه قال الزمخشري: لمن كان يرجو بدل من لكم كقوله: للذين استضعفوا لمن آمن "انتهى" ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب إسم ظاهر في بدل الشىء من الشىء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ويدل عليه قول الشاعر

بكم قريش كفينا كل معضلة وأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً

ولما بين تعالى حال المنافقين وقولهم: { { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [الأحزاب: 12] بين حال المؤمنين وقولهم: صفة ما قال المنافقون وعن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "ان الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً أي في آخر تسع ليال أو عشر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك" .
{ قَضَىٰ نَحْبَهُ } قال ابن عباس: نحبه موته ومشهور اللغة أن قولهم قضى نحبه كناية عن الموت كما قال ابن عباس وقال الشاعر:

فوجدي بسلمى مثل وجد مرقش باسماً إذ لا يستفيق عواذله
قضى نحبه وجداً عليها مرقش وعلقت من سلمى خيالاً أماطله

{ وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي الأحزاب عن المدينة والمؤمنين إلى بلادهم.
{ بِغَيْظِهِمْ } أي مغيظين فهو حال والباء للمصاحبة ولم ينالوا حال ثانية أو من الضمير في بغيظهم فيكون حالاً متداخلة.
{ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بإِرسال الريح والجنود وهم الملائكة فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار وكفى هنا بمعنى وفي تتعدى لاثنين وإذا كانت بمعنى حسب فالأكثر في لسان العرب أن يكون الفاعل مصحوباً بالباء الزائدة نحو كفى بالله والقليل حذف هذه الباء كما قال عميرة:

ودع إن تجهزت غادياً كفى الشيب والإِسلام للمرء ناهياً

{ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي أعانوا قريشاً ومن معهم من الأحزاب.
{ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } هم يهود بني قريظة وقيل وبنو النضير ومن أهل الكتاب بيان لقوله: الذين ظاهروهم * ومن صياصهم متعلق بقوله: وأنزل من صياصهم أي من حصونهم واحدها صيصة وهي كل ما يمتنع به والصياصي أيضاً شوك الحاكة ويتخذ من حديد وقذف الرعب سبب لإِنزالهم ولكنه قدم المسبب لما كان المرور بإِنزالهم أكثر والاخبار به أهم قدم وقال رجل:
"يا رسول الله مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليها قطيفة ديباج فقال: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما رجعت الأحزاب جاء جبريل عليه السلام وقت الظهر فقال إن الله يأمركم بالخروج إلى بني قريظة فنادى في الناس لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة فخرجوا إليها فمصل في الطريق وراء ان ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال ومصل بعد العشاء وكل مصيب فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوس رضي الله عنه لحلف كان بينهم رجوا بذلك حنوّه عليهم فحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والعيال والأموال وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار فقالت له الأنصار في ذلك فقال أردت أن تكون لهم أموال كما لكم أموال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة وقدمهم فضرب أعناقهم وهم بين ثمانمائة إلى سبعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير وجيء بحي بن أخطب النضيري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عندهم وفاء لهم فنزل فيمن نزل على حكم سعد فلما قرب وعليه حلتان تفاحيتان مجموعة يداه إلى عنقه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل ثم قال: أيها الناس انه لا بأس أمر الله وقدره وحكمته كتبت على بني إسرائيل ثم قدّم فضربت عنقه" .
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } سبب نزولها أن أزواجه صلى الله عليه وسلم تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة فنزلت ولما نصر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وصرف عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول الله بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإِماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وأزواجه إذ ذاك تسعة عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وهؤلاء من قريش ومن غير قريش ميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حي بن أخطب الخيبرية فقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة واختار الآخرة وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن وكان تحته عشر نساء زاد الحميرية فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية وروي "أنه قال لعائشة وبدأ بها كانت أحبهن إليه إني ذاكراً لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت رضي الله عنها أو في هذا استأمر أبوي فإِني أريد الله ورسوله والدار الآخرة تخبر أزواجك أني اخترتك فقال إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً والظاهر أنهن لو اخترن الحياة الدنيا وزينتها متعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقهن وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو صلى الله عليه وسلم ثم نادى نساء النبي ليجعلن بالهن مما يخاطبن به إذا كان أمراً يجعل البال له" .
{ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } كبيرة من المعاصي ولا يتوهم أنها الزنا لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولأنه تعالى وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي لزمهن بسبب ذلك وكونهن تحت الرسول عليه السلام أكثر مما يلزم غيرهن فضوعف لهن الأجر والعذاب وقرىء نضعف مبنياً للفاعل العذاب نصب ونضعف مبنياً للمفعول العذاب رفع ومعنى ضعفين أي مرتين.
{ وَمَن يَقْنُتْ } أي يطع ويخضع بالعبودية لله تعالى وبالموافقة لرسوله صلى الله عليه وسلم وقرىء: يقنت بياء المذكر ويعمل حملاً على لفظ من.
{ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال كما قال عليه الصلاة والسلام لست كأحدكم كذلك زوجاته اللاتي تشرفن بقربه قال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى واحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنس والواحد ما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ومنه قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [النساء: 152] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم بأنهم على الحق المبين "انتهى" أما قوله: أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد فصحيح وأما قوله ثم وضع إلى قوله وما وراءه فليس بصحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحداً ينطلق على كل شىء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر النحويون ان مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً.
{ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } الظاهر أنه محمول على أن معناه إن استقبلتن أحداً فلا تخضعن واتقى بمعنى استقبل معروف في اللغة قال النابغة الجعدي:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

أي استقبلتنا باليد ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيهن عن الخضوع إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن والتعليق ظاهره يقتضي أنهن لسن متحليات بالتقوى.
{ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول.
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرىء: وقرن بكسر القاف يقول: وقريقر إذا سكن فهو أمر مثل قولك عدن من وعد وقرن بفتح القاف وتقدّم لنا أنه يقال: قررت في المكان على وزن فعلت فيكون مضارعه يقررن والأمر أصله أقررن نقلت حركة الراء إلى القاف وانحذفت همزة الوصل ثم حذفت لام الكلمة وهي الراء كما حذفت في ظللت فقيل قرن كما قيل ظلن أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن فنهاهن عن التبرج وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى قال الليث: تبرجت أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر.
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ } تقدم نظيره في قوله: يريد الله ليبين لكم في النساء والرجس الإِثم واستعار الرجس للذنوب والطهر للتقوى لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها وأما الطاعات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر وانتصب أهل على النداء أو على المدح أو على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل وأكثر ما يكون في المتكلم نحو قوله:

نحن بنات طارق نمشي على النمارق

ولما كان أهل البيت يشمله وإياهن غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في عنكم ويطهركم.