التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً
١٧٤
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
١٧٥
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٧٦
-النساء

النهر الماد

{ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } الجمهور على أن البرهان هو محمد صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه برهان لما ظهر على يديه من الحجج والدلائل. والنور المبين هو القرآن.
{ يَسْتَفْتُونَكَ } وتقدم الكلام في الكلالة اشتقاقاً ومدلولاً وقال جابر: هي آخر آية نزلت. وفي الكلالة متعلق بيفتيكم وهو من أعمال الثاني لأن في الكلالة يطلبها يستفتونك ويفتيكم فاعمل الثاني. وبعض عوام القراء يقف على قوله: يستفتونك ويرى ذلك حسناً وهو لا يجوز لأن جهتي الأعمال متشبثة احداهما بالأخرى فلو قلت: ضربني، وسكتّ ثم قلت: وضربت زيداً، لم يجز إلا لإِنقطاع النفس.
وقوله: { إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ } تفسير لحكم الكلالة. و{ وَلَدٌ } يشمل الذكر والأنثى. وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، والجملة من قوله: ليس له ولد، في موضع الصفة لامرؤ أي أن هلك امرؤ غير ذي ولد. وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال فعلى هذا تقول: زيداً ضربته العاقل، على أن العاقل صفة لزيد أُجْريت الجملة المفسرة في هذا الباب مجرى الجملة الخبرية في قولك: زيد ضربته العاقل، فكما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر. ومنع الزمخشري أن يكون قوله: ليس له ولد جملة حالية من الضمير في هلك، فقال: ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة لا النصب على الحال وأجاز ذلك أبو البقاء، فقال: ليس له ولد، الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك.
{ وَلَهُ أُخْتٌ } جملة حالية أيضاً والذي يقتضيه النظر إن ذلك ممتنع وذلك ان المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، اما الضمير فإِنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإِعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد. ومؤكد فالحكم إنما هو للمؤكد إذ هو معتمد الاسناد الأصلي فعلى هذا لو قلت: ضربت زيداً، ضربتَ زيداً العاقل، أنبغى أن يكون العاقل نعتاً لزيداً في الجملة الأولى لا لزيداً في الجملة الثانية، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى. والمقصود بالإِسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية قيل: وثم محذوف للاختصار ودلالة الكلام عليه والتقدير ليس له ولد ولا والد وله أخت المراد بها الشقيقة أو التي لأب دون التي لام، لأن الله فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال: للذكر مثل حظ الأنثيين، وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث مُسَوى بينها وبين أخيها. والضمير في قوله: وهو، وفي يرثها، يعود إلى ما تقدم لفظاً دون معنى فهو من باب عندي درهم ونصفه لأن الهالك لا يرث، والحية لا تورث، ونظيره من القرآن: وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمره، وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإِعراب. وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها المحذوف. { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } المراد به هنا الابن لأن الابن يسقط الأخ دون البنت.
{ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } قالوا: الضمير في كانتا ضمير اختين دل على ذلك قوله: وله أخت، وقد تقرر في علم العربية ان الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم وقد منع أبو علي وغيره سيد الجارية مالكها، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ، والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر وهو قوله تعالى: { ٱثْنَتَيْنِ }. وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله: اثنتين، يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود فلهذا كان مقيداً. وهذا الذي قالوه ليس بشيء لأن الألف الضمير للاثنتين تدل أيضاً على مجرد الاثنينة من غير اعتبار قيد فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء، وصار المعنى فإن كانت الأختان اثنتين، ومعلوم أن الأختين اثنتان.
قال الزمخشري: فإِن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله: فإِن كانتا اثنتين وإن كانوا إخوة؟ قلت: أصله فإِن كان من يرث بالاخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالإِخوة ذكوراً وإِناثاً، وإنما قيل: فإِن كانتا، وإن كانوا، كما قيل: من كانت أمك. فكما أنت ضمير من لمكان تأنيث الخبر كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا لمكان تأنيث الخبر وجمعه. "انتهى". وهو تابع في هذا التخريج لغيره وهو تخريج لا يصح وليس نظير من كانت أمك لأن من صرح بها ولها لفظ. ومعنى فمن أنت راعي المعْنى لأن التقدير أية أمّ كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم بخلاف الآية فإِن المدلولين واحد ولم يؤنث في من كانت أمك لتأنيث الخبر، إنما أنت مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً، ألا ترى انك تقول: من قامت، فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكروا وذلك وجهان، أحدهما: أن الضمير في كانتا لا يعود على أختين إنما يعود على الوارثتين ويكون ثم صفة محذوفة لاثنتين واثنتين بصفة هو الخبر والتقدير فإِن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني: أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكروا ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلاً ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير فإِن كانت أختان له أي للمرء الهالك ويدل على حذف الخبر الذي هو له قوله: وله أخت، فكأنه قيل: فإِن كان أختان له. ونظيره أن تقول: إن لزيد أخ فحكمه كذا، وإن كان إخوان فحكمهما كذا، تريد وإن كان أخوان له.
{ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً } يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في إرث الأولاد من أنه للذكر مثل حظ الانثيين والضمير في كانوا إن عاد على الاخوة فقد أفاد الخبر بالتفضيل المحتوي على الرجال والنساء ما لا يفيده الاسم لأن الاسم ظاهر في الذكور وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهوراً واضحاً. والمراد بقوله: اخوة، الاخوة والأخوات وغلب حكم المذكر.
{ أَن تَضِلُّواْ } مفعول من أجله ومفعول يبين محذوف أي يبين لكم الحق فقدر البصري والمبرد وغيره كراهة أن تضلوا وقدر الكوفي وغيره لئلا تضلوا وحذف لا. ومثله عندهم قول القطامي:

رأينا ما رأى البصراء منها فآلينا عليها أن تباعاً

والظاهر أن المعنى يبين الله لكم شأن الكلالة كراهة أن تضلوا فيها.
{ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد وفيما كلفهم به من الأحكام. وهذه السورة مشتمل أولها على كمال تنزيه الله تعالى وسعة قدرته، وآخرها مشمل على بيان كمال العم، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإِلهية والجلال والعزة وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف.