التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٢٠
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
-النساء

النهر الماد

{ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } الآية لما أذن في مضارتهن أن أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاه بين تحريم ذلك في غير الفاحشة وأقام الارادة مقام الفعل فكأنه قال: وإن استبدلتم أو حذف معطوف أي واستبدلتم، وظاهر قوله: وآتيتم إن الواو للحال أي وقد آتيتم. وقيل: هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء، والمعنى أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً. واستدل بقوله:
{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } على جواز المغالات في الصدقات.
{ بُهْتَاناً } البهتان الكذب الذي يتحير منه صاحبه ثم صار يطلق على الباطل أتأخذونه هذا الاستفهام على سبيل الإِنكار أي أتفعلون هذا مع ظهور قيمه. وسمي بهتاناً لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتفتدي منه بمهرها. فجاءت الآية على الأمر الغالب.
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } أنكر أولاً الأخذ، وأنكر ثانياً حالة الأخذ، وانها ليست مما يمكن أن تجامع حال الافضاء لأن الافضاء هو المباشرة والدنو، والافضاء: الجماع، وهو كناية حسنة والميثاق الغليظ. قوله تعالى:
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [الطلاق: 2] { وَلاَ تَنكِحُواْ } الآية . كان قوم من العرب يتزوجون نساء آبائهم إذا ماتوا فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
وما في قوله: { مَا نَكَحَ } واقعة على النوع. كقوله:
{ { مَا طَابَ لَكُمْ } [النساء: 3]، والآباء هنا يشمل الأب ومن قبله من عمود النسب.
{ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناء منقطع. والمعنى لكن ما سبق في الجاهلية قبل ورود النهي فلا إثم عليه.
والضمير في: { إِنَّهُ } عائد على المصدر المفهوم من قوله: ولا تنكحوا، أي نكاح الأبناء نساء الآباء.
{ كَانَ فَاحِشَةً } أي زنا.
{ وَمَقْتاً } المقت: البغض باستحقار.
{ وَسَآءَ سَبِيلاً } إن كان الضمير في ساء عائداً على ما عاد عليه الضمير قبل ذلك كان سبيلاً نصباً على التمييز وهو منقول من الفاعل والتقدير ساء سبيله وإن كانت ساء أجريت مجرى بئس كقوله تعالى:
{ { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ } [الأعراف: 177]، كان في سائر ضمير يفسره ما بعده وكان سبيلاً تمييز للضمير المستكن في ساء والمخصوص بالذم محذوف تقديره وساء سبيلاً سبيله أي سبيل ذلك النكاح.
وفي الحديث قال البراء بن عازب: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه.
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ } هو على حذف مضاف أي نكاح أمهاتكم. ويدل عليه قوله: قبل ولا تنكحوا، والأم حقيقة هي الوالدة، وفي معناها كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك.
{ وَبَنَٰتُكُمْ } هي كل ابنة ولدتها. وفي معناه كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإِناث أو ذكور وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجّس. { وَأَخَوَٰتُكُمْ } الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن.
{ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ } العمة: أخت الأب. والخالة: أخت الأم وخصّ تحريم العمات والخالات دون أولادهن. وتحريم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها وعمة العمة، واما خالة العمة فإِن كانت، العمة أخت أب لأم أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها تحل للرجال ويجمع بينها وبين النساء. وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة لأنها أخت جد وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أخيها.
{ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ } تحرم بناتهما وان سفلن وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعاً لأنه أضيف إليه الجمع فكان لفظ الافراد أخف وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحد وغيره فهؤلاء سبع من النسب تحريمهن مؤبد، وأما اللواتي صرْن محرمات نسب طارىء فذكرهن في القرآن سبعاً وهن في قوله تعالى: { وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ } نبه بهذين المثالين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ثم انه عليه الصلاة والسلام أكد هذا بصريح قوله:
"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ، فصار صريح الحديث مطابقاً لما أشارت إليه الآية، فزوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته وعمته. وكل ولد وُلد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها وكل من وُلد لها من هذا الرجل فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه وأما ولدها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه. وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين إحداهما: إنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع لأن المعنى في النسب وطؤه لأمها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب ويجوز في الرضاع. لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. وظاهر الكلام إطلاق الرضاع ولم تتعرض الآية إلى سن التراضع ولا عدد الرضعات ولا للبن الفحل ولا لإِرضاع الرجل لبن نفسه للصبي أو إيجاره به أو تسعيطه بحيث يصل إلى الجوف، وفي هذا كله خلاف مذكور في كتب الفقه. وقرىء التي واللاتي في الرضاعة بكسر الراء.
{ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ } الجمهور على أنها على العموم فسواء عقد عليها ولم يدخل بها أم دخل بها. وروي عن علي ومجاهد وغيرهما أنه إذ طلقها قبل الدخول فله أن يتزوج أمّها وأنها في ذلك بمنزلة الربيبة. { وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ } ظاهره أنه يشترط في تحريمها أن تكون في حجره. وإلى هذا ذهب على ربه أخذ داود وأهل الظاهر فلو لم تكن في حجره وفارق أمها بعد الدخول جاز له أن يتزوجها. وقالوا: حرم الله الربية بشرطين أحدهما: أن تكون في حجر الزوج. الثاني: الدخول بالأم. فإِذا فقد أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واللاتي صفة لنسائكم المجرور بمن ولا جائز أن تكون اللاتي وصفاً لنسائكم من قوله: وأمهات نسائكم. ونسائكم المجرور بمن لأن العامل في المنعوتين قد اختلف هذا مجرور بمن وذاك مجرور بالاضافة ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقاً بمحذوف ينتظم به مع أمهات نسائكم وربائبكم لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك، لأنه بالنسبة إلى قوله: وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء وتمييز المدخول بها من غير المدخول بها وبالنسبة إلى قوله: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، تكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول: هذا ابني من فلان. قال الزمخشري: ألا ان اعلته بالنساء والربائب واجعل من للاتصال كقوله تعالى:
{ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [التوبة: 67]. فإِني لست منك ولست مني. ما أنا من دد ولا الدد مني.
وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. "انتهى".
ولا نعلم أحداً ذهب إلى أن من معاني من الاتصال واما ما شبه به من الآية والشعر والحديث فمتأول، وإذا جعلنا من نسائكم متعلقاً بالنساء والربائب كما زعم الزمخشري، فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب فاما تركيبه مع الربائب ففي غاية الفصاحة والحسن وهو نظم الآية واما تركيبه مع قوله: وأمهات نسائكم من نسائكم فإِنه يصير، وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن ولا في كلام فصيح لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله: من نسائكم، والدخول هنا كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب، والباء للتعدية والمعنى اللاتي أدخلتموهن الستر، قاله ابن عباس وغيره.
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي في نكاح الربائب اللاتي لم تدخلوا بأمهاتهن وفارقتموهن فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع جاز أن يتزوج ابنتها وفي تحريم الربيبة بالنظر إلى أمها بشهوة أو مسّها بشهوة أو النظر إلى شعرها وصدرها بلذة أو مسّ فرجها وإن لم يدخل بالأم خلاف. وظاهر قوله: وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه واتفقوا على أن مطلق عقد الشراء للجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه ولا يختلف في تحريم ذلك واختلفوا في مجرد النظر بشهوة.
{ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ } احتراز مما كانت العرب تتبنّا الشخص وليس ابنه حقيقة وهم الذين قال الله فيهم:
{ { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } [الأحزاب: 5].
{ وَأَن تَجْمَعُواْ } في موضع رفع.
{ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ } ظاهرة العموم بنكاح أو ملك يمين وفي بعضها خلاف.
{ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناء منقطع يتعلق بالأخير وهو أن تجمعوا بين الأختين، والمعنى لكن ما سلف من ذلك ووقع وأزالت شريعة الإِسلام حكمه فإِن الله يغفره والإِسلام يجبه. ويدل على عدم المؤاخذة به قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.