التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ
٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

النهر الماد

{ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } كرر أحلال الطيبات تأكيداً للجملة قبلها ولما يعطف عليها من قوله: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }، وهو عام مخصوص خصة الجمهور بذبائحهم سواء أسموا اسم الله على الذبيحة أم لم يسموا، وما كان حراماً على المسلم أكله وإن كان أهل الكتاب يأكلونه كالميتة والدم والخنزير فلا يجوز لنا أكله وان كان ذلك من طعامهم. وذهبت الزيدية والامامية الى أنه لا يجوز أكل ذبائحهم فأما ما كان مما هو طعام لهم وليس من الذبائح كالخبز والفواكه فلا خلاف بين المسلمين في جواز أكله وأصل الكتاب هم اليهود والنصارى المتأصِّلون في ذلك لا من تهوَّد وتنصر من العرب وغيرهم لأنهم لم يؤتوا الكتاب ومن العلماء من أجرى هؤلاء مجرى الكتابي الأصلي، ومعنى وطعامكم حل لهم أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. والظاهر أن المجوسي والصابىء لا يحل لنا أكل ذبيحتهم لأنهم ليسوا من أهل الكتاب.
{ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي وأحل لكم نكاح المحصنات أي العفائف اللاتي لسن بزوان. { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي العفائف منهن. وظاهر هذه الآية جواز نكاح الكتابيات ذمية كانت أو حربية، وقد تزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة وكانت نصرانية. وتزوج طلحة يهودية من الشام. ومن العلماء من منع نكاح الكتابيات واستدل بقوله تعالى:
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 221]، قال وأي شرك أعظم ممن يقول المسيح بن الله وعزيز بن الله، تعالى الله عما يقولون. وتقدم الكلام على هذه المسألة في البقرة ومذهب الامامية تحريم نكاح الكتابيات والمسلم يجد بينه وبين الكافرة نفرة دينية وقد تقوى فتصير نفرة طبيعية وأن شخصاً لا يؤمن بالله تعالى ويكذب الرسل وخصوصاً نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم لجدير أن يهجر ولا يعاشر ولا يتخذ فراشاً بل ولو كان مسلماً فاسقاً أو مبتدعاً وجب هجره وترك معاشرته.
{ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن. وانتزع العلماء من هذا انه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجة إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه بحكم الالتزام في حكم المؤتي. { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } تقدم الكلام على نظيرها في سورة النساء. { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ } أي شرائع الإِيمان. { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } أي إذا وافى على الكفر.
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } الآية، نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم وذلك في غزوة المريسيع. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح الأمر بإِيفاء العقود وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح فاستقصى ذلك وكان المطعم آكد من المنكح فقدمه عليه وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإِنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه تعالى. ومعنى قمتم أردتم القيام إلى الصلاة. وتم محذوف تقديره محدثين لأن من كان على طهارة الوضوء لا يجب عليه أن يتوضأ.
{ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن وهو ما واجه الناظر. والظاهر دخول البياض الذي بين الأذن والخد في ذلك وان الأذنين واللحية ليست داخلة في الوجه. والغسل إمرار الماء على العضو. ومذهب مالك ان الدلك داخل في الغسل. { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } اليد في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب وقد غيا الغسل إليها واختلفوا في دخولها في الغسل فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب.
وقال الزمخشري: إلى تفيد معنى الغاية مطلقاً، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. وقوله: إلى المرافق وإلى الكعبين، لا دليل فيه على أحد الأمرين. "انتهى". وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإِن في ذلك خلافاً، منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين، وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإِن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل فإِذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر.
وأيضاً فإِذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد، إلى هو الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشترى، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء فإذا لم يتصور أن يكون داخلاً الإِعجاز وجب أن يحمل على أنه غير داخل لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة للمجاز على الحقيقة. وقول الزمخشري عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج لا دليل فيه على أحد الأمرين مخالف. لنقل أصحابنا إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين، أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج، وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه.
قال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها إذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي ان الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك وروي أشهب عنه أنهما غير داخلين وروي غيره أنهما داخلان. "انتهى".
هذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني، فقال: إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها لم يدخل وإن كان فيحتمل أن يدخل، ويحتمل أن لا يدخل، والأظهر أن لا يدخل. "انتهى". ومذهب أبي العباس أنه إذا كان بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
{ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } هذا أمر بالمسح بالرأس. واختلفوا في مدلول باء الجر هنا فقبل: انها للالصاق وهو مذهب سيبويه وهو الذي نختاره.
قال الزمخشري: المراد الصاق المسح بالرأس وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه. "انتهى". وليس كما ذكر ليس. ماسح بعضه يطلق عليه انه ملصق المسح برأسه حقيقة، وإنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز وتسمية لبعض بكل. وقيل: الباء للتبعيض وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله:
{ { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } [الحج: 25]، أي الحاداً. وحكى سيبويه في كتابه خشنت صدره وبصدره ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد وهذا نص في المسألة. وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فمشهور مذهب مالك وجوب التعميم، والمشهور من مذهب الشافعي وجوب أدنى ما يطلق عليه اسم المسح، ومشهور مذهب أبي حنيفة ربع الرأس. وقال الثوري: إذا مسح شعرة واحدة أجزأه. { وَأَرْجُلَكُمْ } قرىء بالجر عطفاً على رؤوسكم وقرىء بالنصب عطفاً على موضع رؤوسكم، فاقتضى ظاهر ذلك مسح الرجلين. وذهب الجمهور إلى أن فرض الرجلين الغسل لا المسح وذلك هو الثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي قاربت التواتر من أنه كان يغسل رجليه في الوضوء وذهبت الامامية إلى أن فرضهما المسح لا الغسل. وذهب الحسن ومحمد بن جرير الطبري إلى أن المتوضىء مخير بين غسل رجليه وبين مسحهما إذ قد ثبت غسلهما بالسنة ومسهما، ومن ذهب إلى قراءة النصب في وأرجلكم عطف على قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله: وامسحوا برؤوسكم، فقوله بعيد لأن فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية وقراءة وأرجلكم بالخبر تأتي ذلك وغياً مسح الرجلين بالانتهاء إلى الكعبين فعن مالك: انهما الكعبان العظمان الملتصقان للساق المحاذيان للعقب. وقالت الامامية: وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب الذي هو وجه القدم فيكون المسح معنياً به.
{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى وتقدم مدلول الجنب في قوله:
{ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } [النساء: 43]، والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال.
وقال عمرو بن مسعود: لا يتيمم الجنب البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء. والجمهور على خلاف ذلك وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور. والظاهر أن الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله: فلم تجدوا ماء أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة.
{ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } تقدم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء إلا أن في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء وفي لفظة منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليدين كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه وهذا مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك: إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد والأمر بالمسح أنه لو يممه غيره أو وقف في مهب ريح فنسفت على وجهه ويده التراب وأمرّ يده عليه أو لم يمر أو ضرب ثوباً وارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ان ذلك لا يجزئه وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.
{ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي من تضييق بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [النساء: 26] فأغني عن إعادته والذي يقتضيه النظر أنه كثير في لسان العرب تعدى لفظ الإِرادة والأَمر إلى معمول باللام كهذا المكان وكقوله: وأمرت لأسلم. وقول الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنها تمثل لي ليلاً بكل طريق

فهذه اللام يجوز أن تأتي ان بعدها، وان يكتفي بها دون أن، وأن يؤتى بأن وحدها كقوله تعالى: { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } [غافر: 66] وتأويل من جعل يريد وأمرت لأسلم على تأويل المصدر بغير حرف سابك فيقدر إرادتي ليجعل وأمري لأسلم فيكون مبتدأ في التقدير والخبر في ليجعل وفي لأسلم تقديره إرادتي كائنة للجعل وأمري كائن للإِسلام فهو تأويل متكلف.