التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ
٨
وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
٩
وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
١٠
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ
١١
قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
-الأنعام

النهر الماد

{ وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } قال ابن عباس: قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله. "انتهى". والظاهر أن قوله: وقالوا استئناف اخبار من الله تعالى حكي عنهم أنهم قالوا ذلك، ويحتمل أن يكون عطوفاً على جواب لو، أي لقال الذين كفروا، ولقالوا: لولا أنزل عليه ملك. ولولا بمعنى هلا للتحضيض.
{ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } قال ابن عباس وغيره: في الكلام حذف تقديره ولو أنزلنا ملكاً فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم ولم يؤخروا حسب ما في كل أمة اقترحت آية وكذبت بها بعد ظهورها.
{ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً } أي ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم. ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة. ومعنى لجعلناه رجلاً أي لصيّرناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غالب الأحوال في صورة دِحْية، وكما تمثل لمريم في صورة بشر، وكما في حديث سؤال جبريل عليه السلام بحيث رآه الصحابة في صورة رجل يسأل عن الإِسلام والإِيمان والإِحسان. وللبسنا أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذٍ بأنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان هذا إنسان وليس بملك.
{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه وتأسَّ بمن سبق من الرسل. وقالت الخنساء:

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي

{ فَحَاقَ } يقال: حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً، أي أحاط. ومعنى سخروا استهزؤا إلا أن استهزأ تعدى بالباء وسخر بمن كما قال { { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود: 38]. وبالباء تقول سخرت به، وكان اللفظ سخروا وإن كان معناه استهزوا لئلا يكثر في الجملة الواحدة لفظ الاستهزاء إذ أوله ولقد استهزىء وآخره يستهزؤون فكان سخروا أفصح.
{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } الآية، لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمة أمية لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تكابر في الاخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض والنظر في ما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك ويتظافر مع الاخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون في الاخبار كما قال بعض العصريين:

لطائف معنى في العيان لم تكن لتدرك إلا بالتزاور واللقا

والظاهر أن السير المأمور به هو الانتقال من مكان إلى مكان وان النظر المأمور به هو نظر العين، وان الأرض هي ما قرب من بلاؤهم من ديار المهلكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود. وقال قوم: الأرض هنا عام لأن في كل قطر منها آثار الهالكين وعبرا للناظرين. وجاء هنا خاصة ثم انظروا بحرف المهلة وفيما سوي ذلك بالفاء التي هي للتعقيب. وقال الزمخشري في الفرق: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله: فانظروا، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين. وهنا معناه أمر الإِباحة للسير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح. "انتهى". وما ذكر أولاً متناقض لأنه جعل النظر متسبباً عن السير فكان السير سبباً للنظر. ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر فجعل السير معلولاً بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ودعوى ان الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل: ضربت زيداً فبكى، وزنا ماعز فرجم، فالتسبب فهم من مضمون الجملة لا ان الفاء موضوعة له وإنما تفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط وعلى تسليم أنّ الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وتلك المواضع وعاقبة الشيء منتهاه وما آل إليه. والمراد به هنا العذاب على العصيان. قال النابغة: ومن عصاك نعاقبه ومعاقبة. تنهي الحسود كنهي الحسود ولا تقعد على ضمد، والضمد: الحقد.
{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الآية: لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإِنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فليزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير، وما موصولة بمعنى الذي أريد بها العموم وهي مبتدأ، ولمن في موضع الخبر، ثم أمره تعالى بنسبة ذلك إلى الله تعالى ليكون أول من بادر إلى الإِعتراف بذلك.
{ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } ظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط، وقيل: أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم، والرحمة هنا الظاهر أنها عامة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا وهي عبارة عن الإِفضال عليهم والإِحسان إليهم.
{ لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جواب قسم وهو ان كتب أجرى مجرى القسم فأجيب بجوابه وهو ليجمعنكم كما في قوله:
{ { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [المجادلة: 21]. والظاهر أن إلى للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين إلى يوم القيامة.
{ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } الظاهر أن الذين مرفوع على الابتداء، والخبر قوله: فهم لا يؤمنون، ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن. وخسروا في معنى قضى الله عليهم بالخسران وترتيب على ذلك عدم إيمانهم.