التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١٥٢
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٥٣
-الأنعام

النهر الماد

{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } لما ذكر ما حرموا افتراء عليه ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان، ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها. وتقدم شرح تعالوا عند قوله تعالى: { { تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ } [آل عمران: 64]. والخطاب في: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي: تعالوا، قيل: للمشركين. وقيل: لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن وكتابي ومشرك. وسياق الآيات يدل على أنه للمشركين وإن كان حكم غيرهم. في ذلك حكمهم أمره تعالى أن يدعو جميع الخلق إلى سماع ما حرم الله تعالى بشرع الإِسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر. وأتل: أسرد. وأنص من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً. وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتح التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... إلى آخر الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله تعالى في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: انها العشر كلمات أنزلت على موسى عليه السلام. وما: بمعنى الذي، وهي مفعولة بأتل، أي أقرأ الذي حرمه ربكم عليكم. وعليكم متعلق بحرم لا باتل.
{ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } الظاهر أنّ انْ تفسيرية. ولا: ناهية، لأن أتل فعل بمعنى القول وما بعد أن جملة فاجتمع في أن شرطاً التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى القول، وأن يكون ما بعدها جملة. قال الزمخشري: فإِن قلت: إذا جعلت انْ مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم عليكم، وجب أن يكون بعدها منهياً عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأول؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهن جميعاً فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه على أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله. "انتهى". وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخل تحت حكم التحريم وكون التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً والغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز انّ التفسيرية بل هي معطوفة على قوله: اتل ما حرم أمرهم أولاً بأمر مرتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانياً بأوامر، وهذا معنى وأفلح. والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت أنْ التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه. والتقدير وما أمركم به فحذف، وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه، لأن معنى ما حرم ربكم عليكم ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به وإذا كان التقدير هكذا أصح أن تكون أنْ تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم، وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً، وأكرم عالماً، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر، كما قال امرؤ القيس:

وقوفاً بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وهذا ألا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً. قال الزمخشري: فإِن قلت: وجب هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلاً مما حرم. قلت: وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي الانعطاف الأوامر عليها. وهي قوله: وبالوالدين إحساناً، التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا وأوفوا. وإذا قلتم: فاعدلوا وبعهد الله أوفوا. "انتهى".
ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بيّنا جواز عطف وبالوالدين إحسانا على تعالوا، وما بعده معطوفة عليه، ولا يكون قوله: وبالوالدين معطوف على أن لا تشركوا.
{ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } تقدم تفسيره في البقرة.
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } من هنا سببية أي من فقر، يقال: أملق الرجل إذا افتقر، ولما أمر تعالى بالإِحسان إلى الوالدين نهي عن الإِساءة إلى الأولاد، ونبه على أعظم الإِساءة للأولاد وهو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر، كما قال في الحديث:
"وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله تعالى وهو قوله: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. ثم قال: وان تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: وإن تزاني حليلة جارك" . وجاء هذا الحديث منتزعاً من هذه الآية، وجاء التركيب هنا من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. وفي سورة الإسراء { { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [الآية: 31]. فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام، ويمكن أن يقال في هذه الآية: جاء من املاق. وظاهره حصول الاملاق للوالد لا توقعه وخشيته وإن كان واجداً للحال. فبدأ أولاً بقوله: نحن نرزقكم، خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإِملاق وإحالة الرزق على الخالق الرازق، ثم عطف عليهم الأولاد، وأما في سورة الإِسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون، وإن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإِملاق والخشية منه فبدىء فيه بقوله: نحن نرزقهم، إخباراً بتكفله تعالى برزقهم، فلستم أنتم رازقيهم. وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان مَعْنيين أحدهما: أن الآباء نهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم، والآخر: أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين، لتوقع الإِملاق وخشيته. وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد.
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ } الآية، المنقول فيما ظهر وما بطن كالمنقول في قوله: وذروا، ظاهر الاثم وباطنه. وتقدم فأغنى عن إعادته.
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } هذا مندرج تحت عموم الفواحش، إذ الأجود أن لا يخصّ الفواحش بنوع ما، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيماً لهذه الفاحشة واستهوالاً لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله: إلا بالحق إلا من القتل لا من عموم الفواحش. وقوله: التي حرم الله، حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وُصفت بالتي. والنفس المحرمة هي المؤمنة والذميّة والمعاهدة وبالحق بالسبب الموجب لقتلها كالردة والقصاص والزنا بعد الاحصان والمحاربة.
{ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } إشارة إلى جميع ما تقدم. وفي لفظ وصاكم من اللطف والرأفة، وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإِحسان. ولما كان العقل هو مناط التكليف قال: لعلكم تعقلون، أي فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والآخرة والوصاة، الأمر المؤكد المقرر. قال الأعشى: أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإِله حين أوصى وأشهدا.
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ } هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة.
{ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم. ولم يأت إلا بالتي هي حسنة، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى، وأموال الناس ممنوع من قربانها. ونص على اليتيم لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته.
{ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي. ومعناه: احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه. وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم، مع أنه لا يثبت معه سفه.
{ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل والسوية. وقيل: القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي:
"إذا وزنتم فارجحوا وأوفوا" . فعل أمر وبعده أوامر أيضاً وبعده مناه فيحتمل الوجهين السابقين إلى قوله:
{ لاَ نُكَلِّفُ } الآية، تقدم الكلام على مثلها في البقرة.
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ } أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالده وأقربوه، فهو ينظر إلى قوله تعالى:
{ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135]. وعني بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة وخبر ووساطة بين الناس وغير ذلك.
{ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ } يحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي بما عاهدكم الله عليه أوفوا، وأن يكون مضافاً إلى المفعول، أي بما عاهدتم الله عليه أوفوا.
{ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور والظاهرة الجلية وجب تعقلها وتفهمها. فختمت بقوله: لعلكم تعقلون. وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله: لعلكم تذكرون.
{ وَإِنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } قرىء: وإن بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف. وفاتبعوه: جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرىء: بفتح الهمزة وتشديد النون وهو على إضمار اللام تقديره ولأنّ، كقوله تعالى:
{ { لإِيلاَفِ } [قريش: 1]، وقوله: { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } [قريش: 3]. وقرىء: وأنْ وهو على إضمار اللام وأنْ مخففة من الثقيلة وفيها ضمير الشأن وهذا صراطي مبتدأ وخبر فسرّ ذلك لضمير الشأن. والإِشارة بهذا إلى الآيات التي أعقبتها هذه الآية من الأوامر والنواهي لأنها هي المحكمات التي لم تنسخ في ملة من الملل. ومستقيماً حال مؤكدة، لأن صراطه تعالى لا يكون إلا مستقيماً.
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } في مسند الدارمي عن ابن مسعود قال:
"خط لنا يوماً رسول الله صلى الله عليه سلم خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية" . وانتصب فتفرق لأجل النهي جواباً له أي فتفرق فحذف التاء. وقرىء فتفرق بتشديد التاء.
{ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } كرر التوصية على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر تعالى باتباعه، ونهى عن بنيات الطريق ختم ذلك بالتقوى التي هي إتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.