التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَٰتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢١
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٢٢
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
٢٣
ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٤
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٥
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
٢٦
-الأنعام

النهر الماد

{ وَمَنْ أَظْلَمُ } الآية تقدم الكلام عليها، والإِفتراء: الاختلاق، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله، جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا: { { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [الأنعام: 148]، وقالوا: { { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28]، وقالوا: الملائكة بنات الله؛ وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً، ولم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: { لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان. ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم. والظالم غير الأظلم، وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } الناصب ليوم فيه أقوال ذكرت في البحر، أحدها أنه مفعول لأذكر محذوفة على أنه مفعول به وهو خطاب للسامع، والثاني لمحذوف متأخر تقديره ويوم نحشرهم كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإِبهام الذي هو أدخل في التخويف. والضمير المنصوب في نحشرهم عام في العالم كلهم وعطف بثم للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف فإِن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم.
و{ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } عام في المشركين.
و{ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ } سؤال توبيخ وتقريع. وظاهر مدلول أين شركاؤكم غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شىء وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة لها شركاء فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم والقول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام. وقد يطلق على مجرد القول ومن ذلك قول سيبويه في كتابه: وزعم الخليل، أي قال: والذين موصول صلته كنتم تزعمون والعائد عليه محذوف تقديره كنتم تزعمونهم شركاء.
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشىء والإِعجاب به كما تقول: فتنت بزيد، فعلى هذا يكون المعنى ثم لم يكن حبّهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإِنكار لها وفي هذا توبيخ لهم وثم لم تكن فتنتهم فيه قراءات الجاري منها على الأشهر، ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب.
{ إِلاَّ أَن قَالُواْ } إن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى الضمير وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا أن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله:
{ { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ } [النمل: 56] و { { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [الجاثية: 25]. ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً. والفتنة إسم يكن والخبر إلا أن قالوا جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ ثم لم تكن فتنتهم بالتاء ورفع الفتنة فأنت لتأنيث الفتنة، والإِعراب كإِعراب ما قبله، ومن قرأ ثم لم تكن بالتاء فتنتهم بالنصب فالأحسن أن يقدر إلا أن قالوا مؤنثاً أي ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. وقرىء: ربنا بالجر صفة لله تعالى وبالنصب على النداء أي يا ربنا.
{ ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر قلبي، وكيف منصوب بكذبوا، والجملة في موضع نصب بانظر لأن أنظر معلقة، وكذبوا ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد.
{ وَضَلَّ } يحتمل أن يكون عطفاً على كذبوا فيدخل في حيز أنظر ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه.
{ مَّا كَانُواْ } قال ابن عطية: ما مصدرية ومعناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله الشركاء. وقال الزمخشري: ما موصولة بمعنى الذي، قال: وغاب عنهم ما كانوا يفترون الهيته وشفاعته.
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } الآية، عن ابن عباس أن أبا سفيان وجماعة من كفار قريش استمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول؟ فقال: ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان صاحب أشعار سمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار. قال أبو عبيدة: أساطير جمع أسطارة وهي النزهات وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط. "انتهى". وهذا لا تسميه النحاة إسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعاً وإن لم يلفظ له بواحد. والضمير في ومنهم عائد على الذين أشركوا ووحد الضمير في يستمع حملاً على لفظ من، وجمعه في على قلوبهم حملاً على معناها ويستمع متعد إلى مفعول به إذا كان من جنس الأصوات كقوله:
{ { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } [الأحقاف: 29] عدي هنا بإِلى لتضمنه معنى يَصْغَوْنَ بأسماعهم إليك. والجملة من قوله: وجعلنا معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على إسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحال أي وقد جعلنا من ينصت إلى سماعك وهم من الغباوة في جدّ من قلبه في كنان وأذن صمّاء. وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني، ويجوز أن تكون بمعنى خلق فتكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدمت صارت حالاً. والإِكنة جمع كنانا كعنان وأعنة، والكتاب: الغطاء الجامع. قال الشاعر:

إذ ما انتضوها في الوغى من أكنة حسبت بروق الغيث هاجت غيومها

و{ أَن يَفْقَهُوهُ } في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه. وقيل: المعنى لئلا يفقهوه. وتقدم نظير هذين التقديرين في قوله تعالى: { أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 44] والضمير المنصوب في يفقهوه عائد على القرآن الدال عليه من حيث المعنى. قوله: ومنهم من يستمع إليك، والوقر: الثقل في الأذن، ويقال: بفتح الواو وبكسرها. وفعله وقر بفتح القاف وكسرها وهو عبارة عما جعل الله تعالى في نقوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.
{ وَإِن يَرَوْاْ } الآية، لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم انتقل من حاسّة الأكنة والوقر إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع وهي الرؤية، فنفى ما يترتب على إداركها وهو الإِيمان.
وقال ابن عباس: كل آية، كل دليل وحجة.
{ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة. "انتهى". ومقصود هذه الجملة الشرطية الاخبار عن المبالغة التامة والعناء المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشىء المرئي الدال على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه بل يرتبون عليه ضد مقتضاه وحتى أصلها أن تكون حرف غاية، وقد تأتي بمعنى الفاء فإِذا كانت بمعنى الغاية كانت حرف ابتداء تعلقت بقوله: ومنهم من يستمع إليك، أي يمتد استماعهم وتكررهم إلى أن يقولوا في القرآن إن هذا إلا أساطير الأولين، فيكون المبتدأ محذوفاً بعدها تقديره حتى هم والجملة الشرطية خبر المبتدأ وإذا كانت بمعنى الفاء كان التقدير فإِذا جاؤك، ويجادلونك جملة حالية أي مجادليك، وبلغ تكذيبهم بالآيات إلى المجادلة، ويقول جواب إذا. وأساطير: جمع أسطارة وأسطورة أو أسطور، والذين كفروا قام مقام الضمير إذ لو جرى على الغيبة لكان اللفظ لقالوا.
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } النائي: البعد. يقال: نأى ينأى ناياً. والضمير في وهم عائد على الكفار، وتقدم ذكر الرسول في قوله: يجادلونك، وتقدم ذكر القرآن في قوله: إن هذا، أي القرآن، فاحتمل أن يكون الضمير في عنه في الموضعين عائداً على الرسول فيكون من الإِلتفات إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة، ومعناه ينهون الناس عن الرسول وعن أتباعه، وينأون عنه أي يبعدون عن الرسول وما جاء به. ويحتمل أن يكون الضمير في عنه عائداً على القرآن المشار إليه بقولهم: إن هذا فلا يكون من باب الإِلتفات. وفي قوله: ينهون وينأون تجنيس التصريف وقيل: تجنيس التحريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالهاء، وينأون انفردت بالهمزة.