التفاسير

< >
عرض

وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٥١
وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ
٥٣
وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٤
وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٥٥
-الأنعام

النهر الماد

{ وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ } لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره تعالى أن ينذر به فقال: وأنذر به أي بما أوحي إليك. وظاهر قوله: الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث.
{ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } أي إلى جزائه.
{ لَيْسَ لَهُمْ } هذه الجملة في موضع الحال أي في حال من لا وليّ له ولا شفيع. وذو الحال الضمير في قوله: يحشروا، والعامل فيها يحشروا، ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى عن صفة الحال يومئذٍ.
{ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } متعلق بقوله: وأنذر، أي رجاء أن يحصل لهم التقوى.
{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية، قال سعد بن أبي وقاص: نزلت فينا ستة فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. قالت قريش: انا لا نرضى أن نكون لهؤلاء أتباعاً فاطردهم عنك. فنزلت: ولما أمر تعالى بإِنذار غير المتقين لعلهم يتقون أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم. والظاهر في قوله: يدعون ربهم، يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة.
و{ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلاً، تريد على كل حال، فكني بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل، وخصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه. وقرأ ابن عامر وجماعة بالغدوة.
{ يُرِيدُونَ } جملة حالية وذو الحال الواو في يدعون وهي الفاعل، ويدعون هو العامل في الحال.
و{ وَجْهَهُ } هو كناية عن الله تعالى إذ الجسمانية تستحيل بالنسبة إلى الله تعالى.
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم } الآية، قال الزمخشري: كقوله:
{ { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي } [الشعراء: 113]، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم. فقال: ما عليك من حسابهم من شىء، بعد شهادته لهم بالإِخلاص وبإِرادة وجه الله في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين، وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم، أي لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]. "انتهى". لا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله: وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر أنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه واخبار الله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه، فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرحي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم لله تعالى.
و{ مِّن شَيْءٍ } في موضع المبتدأ ومن زائدة ومن حسابهم في موضع الحال لأنه لو تأخر كان في موضع الصفة، وعليك في موضع خبر المبتدأ كأنه قيل ما شيء من حسابهم كائن عليك، فالمعنى نفي حسابهم عليه، وجوابه أي النفي قوله: فتطردهم فينتفي الحساب والطرد كأنه قيل: لا حساب عليك فكيف يكون طرد، ولما نفى حسابهم عليه نفى حسابه عليهم في قوله: وما من حسابك عليهم من شىء. قال الزمخشري: فإِن قلت: أما كفى قوله: ما عليك من حسابهم من شىء، حتى ضم إليه: وما من حسابك عليهم من شيء؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله:
{ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]. ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. انتهى قوله كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، تركيب غير عربي لا يجوز عود الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً لأنه إن أعيد غائباً فلم يتقدم له اسم مفرد غائب يعود عليه. إنما تقدم قوله: ولا هم، ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطباً فلم يتقدم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله: لا تؤاخذ أنت ولا يمكن العود عليه لأنه ضمير مخاطب فلا يعود عليه غائباً ولو أبرزته مخاطباً لم يصح التركيب أيضاً فإِصلاح هذا التركيب أن يقال: لا يؤاخذ كل واحد منك ولا منهم بحساب صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة، كما تقول: أنت وزيد تضربان، وفسر الحساب هنا بالأعمال، وقيل: بالأرزاق أي كل منهما له حسابه، وقوله: فتكون من الظالمين هو جواب للنهي في قوله: ولا تطرد الذين كقوله تعالى: { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [طه: 61] فصار جواب كل من النهي ومن النفي على ما يناسبه.
{ وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } الآية، الكاف للتشبيه في موضع نصب. والإشارة بذلك إلى فتون سابق وهو افتتان الكفار الذين أشاروا بطرد من كان أسلم من ضعفاء المؤمنين وهم الذين نهاهم الله تعالى عن طردهم وكنى بقوله: بعضهم، عن أولئك الكفار، وقوله: ببعض، كناية عن أولئك المؤمنين، وقوله: ليقولوا، علة للفتون. وأهؤلاء إشارة إلى أولئك المؤمنين واستحقار لهم كقول الكفار:
{ { أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [الفرقان: 41]. وكقولهم: { { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [القمر: 25].
وقوله: { مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } أي بالدين علينا.
{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ } هذا استفهام معناه التقرير والرد على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه. وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم: أهؤلاء منّ الله عليهم، أي أنعم عليهم، فناسب ذكر الانعام لفظ الشكر، والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه، وتضمّن العلم معنى الثواب والجزاء على شكرهم.
{ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } الآية، الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسّلام وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدؤهم بالسلام. ولفظة الذين يؤمنون عامة في هؤلاء وفي كل مؤمن يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره تعالى بإِنشاء التحية لهم.
{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } في صحيح البخاري
"أن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش ان رحمتي سبقت غضبي" . والكتب هنا كناية عن إيصال رحمته تعالى لعباده.
{ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا } الآية، السوء: الشرك. وتقدّم تفسير عمل السوء في النساء.
{ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } أي من بعد عمل السوء.
{ وَأَصْلَحَ } شرط استدامة الإِصلاح في الشىء الذي تاب منه. وقرىء أنه فانه بفتح الهمزتين. والضمير في أنه ضمير الأمر والشأن وأنه بدل من الرحمة، والرحمة منصوب بكتب. ومن في قوله: من عمل، يجوز أن تكون شرطية، والفاء في فإِنه جواب الشرط وما بعده مقدر بالمصدر. وقبله مبتدأ يكون المصدر خبره، فالتقدير فالأمر غفران الله له. ويجوز أن تكون من مبتدأ والفاء دخلت في خبره، وهذه الجملة المقدرة في موضع خبر المبتدأ الذي هو من. وقرىء: بكسر الهمزتين فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب على التقديرين في من عمل أهي شرط أو موصول. وقرىء: بفتح الأولى على البدل من الرحمة كما تقدم وبكسر الثانية على التقديرين اللذين سبقا وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم، فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة، وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة، ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح.
{ وَكَذَلِكَ } الآية الكاف للتشبيه. وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن نرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإِسلام، إلا أنه لا يحفظ حدوده واستبان يكون لازماً ومتعدياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها.
وقرىء: { وليستبين } بالياء سبيل بالرفع أي وليظهر.
{ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } وقرىء: ولتستبين بتاء الخطاب سبيل بالنصب، فاستبان هنا متعدية فقيل: هو خطاب للرسول عليه السلام. وقيل: له ظاهراً والمراد أمته وحض سبيل المجرمين لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين.