التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٧٣
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٧٤
وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
-الأنعام

النهر الماد

{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } الآية، لما ذكر أنه تعالى إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً، بل صدراً عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع أن هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من صانع واحد عالم قادر مريد جلّ وتعالى.
{ وَيَوْمَ يَقُولُ } خبر المبتدأ وهو قوله: والحق، صفة والتقدير قوله: الحق كائن يوم يقول، كما تقول: اليوم القتال.
و{ كُن } معمول ليقول.
و{ فَيَكُونُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو يكون وهذا تمثيل لإِخراج الشيء من العدم إلى الوجود وسرعته إلا أن ثمّ شيئاً يؤمر.
{ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ } الملك مبتدأ وخبره المجرور قبله. ويوم: منصوب بما تعلق به الجار والمجرور، أي الملك كائن له.
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } كقوله تعالى:
{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16].
{ عَٰلِمُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو عالم.
{ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم، ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير، إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ } الآية، لما ذكر بقوله:
{ { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } [الأنعام: 71]، ناسب ذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدهم الأعلى، فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم إبراهيم على أبيه وقومه عبادتها. وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف يعظمون إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن آزر اسم أبيه. قال ابن عباس وغيره: وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارخ، فعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل. وهو عطف بيان أو بدل وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، وقرىء: آزر بالضم على النداء أي يا آزر.
{ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً } معمول لقال وهو استفهام معناه الإِنكار والتوبيخ.
{ أَصْنَاماً آلِهَةً } مفعولان لتتخذ وبدأ بقوله: أصناماً، تقبيحاً وتبعيداً لأن يتخذ ما كان من حجر أو خشب معبودات آلهة لما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كان الضلال صار ظرفاً لهم.
و{ مُّبِينٍ } ظاهر.
{ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ } الآية. هذه جملة اعتراض بين قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ }، من منكراً على أبيه عبادة الأصنام، وبين جملة الاستدلال عليهم بإِفراد المعبود الحق، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ }، والكاف في كذلك للتشبيه وذلك إشارة إلى الرؤية المفهومة من قوله: أني أراك أي مثل تلك الرؤية نرى. ونرى بمعنى أرأينا، ويجوز أن تكون الكاف للتعليل بمعنى اللام كأنه قيل: وكذلك.
و{ مَلَكُوتَ } بمعنى: الملك. كالرحموت بمعنى: الرحمة. والرغبوت بمعنى: الرغبة. وفي هذا البناء على فعلوت اشعار بالتكثير. والإِراءة هنا بمعنى: الإِبصار، لأنها تعدت إلى اثنين الأول إبراهيم والثاني ملكوت. والهمزة فيها للنقل أرأيته جعلته يرى فأصل الفعل رأى بمعنى أبصر يتعدى إلى واحد فلما أدخل همزة النقل تعدى إلى اثنين. وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كشف الله له السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين" ، فليس المعنى مجرد الإِبصار ولكن وقع له معها من الإعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس. وقال الشاعر:

ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المعاينة الخليل

{ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } أي أريناه الملكوت.
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ } الآية، هذه الجملة معطوفة على قوله: وإذ قال إبراهيم، على قول من جعل وكذلك نرى اعتراضاً وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية: الفاء في قوله: فلما، رابطة جملة ما بعدها بما قبلها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية. جنى عليه وأجن أظلم هذا تفسير المعنى، وهو بمعنى ستر متعدياً. قال الشاعر:

وما وردت قبيل الكرى وقد جنه السدف الأدهم

{ رَأَى } جواب لما.
{ كَوْكَباً } هو الزهرة، قاله ابن عباس. ووزنه فوعل عند البصريين فالواو زائدة وأصوله الكافان والباء. وقال الصاغاني. حق لفظ كوكب أن يذكر تركيب وَ كَ بَ عند حذاق النحويين فإِنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ك ب، ولعله تبع نية الليث فإِنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية. "انتهى". وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول الكلمة، والكاف ليست من حروف الزيادة.
{ قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } استئناف كلام من إبراهيم حين رأى الكوكب. ولا يريد بذلك الإِعتقاد وإنما ذلك مثل أن ترى رجلاً ضعيف القوة لا يكاد ينهض فيقول إنسان: هذا ناصري، بمعنى أنه لا يقدر على نصرتي مثل هذا. وقال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً لقيام دليل الحدوث فيها، وإن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها وسيرها وسائر أحوالها. "انتهى".
{ فَلَمَّآ أَفَلَ } أفل يأفل أفولاً، أي غاب. قال ذو الرمة:

مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك

{ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } أي عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان، فإِن ذلك من صفات الاجرام، والله تعالى منزه عن ذلك.
{ فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } لم يأت في الكوكب بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى يبزغ الكوكب لأنه بإِظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإِنه لما أوضح لهم أن هذا النير هو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً، وارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة، فرآه أول طلوعه وهو البزوع ثم عمل كذلك في الشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأعلم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل، فقال: ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكوكب في صفة الحدوث.
{ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإِن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى.
{ فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً } المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث. فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإِشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث. ويمكن أن يقال أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث، بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم، فلذلك أشار للمؤنث عندنا حين حكى كلام إبراهيم لما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بفرج لم تكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم. وحين أخبر تعالى عنها بقوله: بازغة، وأفلت، أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. ولما أفلت الشمس ولم يبق شىء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من شركهم وناداهم بقوله:
{ يٰقَوْمِ } لينبههم على تحقيق براءته من الشرك.