التفاسير

< >
عرض

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
٨٠
وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٨١
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٨٢
وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٨٣
-الأنعام

النهر الماد

{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } الآية. وهذا من التجنيس المغاير الأول فعل والثاني اسم والمعنى قصدي وعبادتي.
{ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } السماوات ظرف للكواكب والشمس والقمر معبوداتهم من دون الله تعالى.
{ وَٱلأَرْضَ } ذكر الظرف الذي فيه أصنامهم المتخذة من الخشب والحجارة. وانتصب: { حَنِيفاً }، على الحال. وذو الحال الثاني وجهت. والعامل فيها الفعل وتقدم تفسير الحنيف وهو المائل عن الأديان كلها إلى دين الحق. وختم ذلك بانتفاء كونه من المشركين وما أحسن ختم هذه الجمل، ختم أولاً في رؤية الكوكب بقوله: لا أحب الآفلين، وثانياً في تعليق الضلالة على انتفاء الهداية، وثالثاً في البراءة من الشرك، ورابعاً على سبيل التوكيد في انتفائه أن يكون من المشركين.
{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } المحاجة: مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يولي كل واحد منهما بحجته على صحة دعواه، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف مما يعبدونه من الأصنام كقول قوم هود: ان تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، فأجابهم بأن الله تعالى قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه، وأنه لا يخاف من آلهتهم.
{ وَقَدْ هَدَانِ } جملة حالية.
{ وَلاَ أَخَافُ } استئناف اخبار.
و{ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي } إستثناء منقطع، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة الله تعالى.
{ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } ذكر عقب الاستثناء سعة علم الله تعالى في تعلقه بجميع الكوائن وانتصب علماً على التمييز المحول من الفاعل أصله وسع علم ربي كل شيء وأكثر ما يجيء التمييز المحول من الفاعل مع الفعل اللازم نحو: تصبب زيد عرقاً، وهنا جاء مع الفعل المتعدي لأن كل شىء مفعول بوسع ووسع متعد قال تعالى:
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } [البقرة: 255].
{ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصناف للربوبية.
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } هذا استفهام معناه التعجب والإِنكار كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله تعالى وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله.
{ وَلاَ تَخَافُونَ } معطوف على أخاف فهو داخل في التعجب والإِنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإِشراكهم بالله تركاً للمقابلة ولئلا يكون الله تعالى عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله وأتى بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي خشب وحجارة وكواكب. والسلطان: الحجة. والإِشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم نفي أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي، فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب إطراحه.
{ فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ } لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف، أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لا هم، قال الشاعر:

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيّي وأيك فارس الأحزاب

أي أينا. ومعلوم عنده أنه فارس الأحزاب لا المخاطب، وأضاف أيا إلى الفريقين ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وأعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريد نفسه فيكون ذلك تزكية لها. وجواب الشرط محذوف أي إن كتم ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن.
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية الظاهر أنه من كلام إبراهيم لما استفهم استفهام عالم بمن هو الآمن نص على من له الأمن فقال: الذين آمنوا. الذين خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين أو مبتدأ.
و{ أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأ ثان.
و{ لَهُمُ ٱلأَمْنُ } خبر أولئك، والجملة من أولئك وما بعده خبر عن الأول ولم يلبسوا يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة فلا موضع لها من الإِعراب، ويحتمل أن تكون الجملة المنفية حالاً والعامل فيها آمنوا أي آمنوا غير لابسي إيمانهم بظلم. وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً ليس كذلك. ألا ترى إلى قوله:
{ { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [آل عمران: 174]. وكذلك ما ذهب إليه ابن خروف من وجوب الواو فيها إذا كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ. ألا ترى إلى قوله: لم يمسسهم، فيه ضمير يعود على ذي الحال، وهو ضمير النصب في يمسسهم ولم تدخل الواو على لم.
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ } الآية. الإِشارة بتلك الى ما وقع به الاحتجاج من قوله: فلما جن عليه الليل إلى قوله: وهم مهتدون، هذا هو الظاهر وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لا بياء المتكلم. وآتيناها أي أحضرناها بياناً له وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية أو آتيناها بوحي منا ولقناه إياها. وتلك مبتدأ وحجتنا خبره، وآتيناها خبر ثان.
{ عَلَىٰ قَوْمِهِ } في موضع الحال من الهاء في آتيناها أي آتيناها مستعلية على قومه هو على حذف مضاف تقديره على حجج قومه.
{ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ } أي مراتب ومنزلة من نشاء. وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالحجة والبيان. وقرىء: درجات بالتنوين فمن مفعول بنرفع، ودرجات منصوب على الظرف أي في درجات. وقرىء: مضافاً لمن فدرجات مفعول بنرفع.
{ إِنَّ رَبَّكَ } الظاهر أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بقوله: وتلك حجتنا إلى آخره.