التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٩٧
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
٩٨
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٩٩
-الأنعام

النهر الماد

{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا } نبه تعالى على أعظم فوائد خلقها وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة، إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها. والخطاب عام لكل الناس ولتهتدوا متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم، أي جعل ذلك لاهتدائكم، وجعل معناها خلق، فهي تتعدى إلى واحد. قال ابن عطية: ويمكن أن تكون بمعنى صيّر ويقدر المفعول الثاني من لتهتدوا أي جعل لكم النجوم هداية. "انتهى". هذا ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها.
{ قَدْ فَصَّلْنَا } أي بينا وقسّمنا وخص من يعلم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها.
{ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام.
{ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } أي موضع استقرار وموضع استيداع، أو مصدراً أي فاستقرار واستيداع. وقرىء: فمستقر بكسر القاف اسم فاعل وعلى هذه القراءة يكون ومستودع بفتح الدال إسم مفعول.
{ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } لما كان الاهتداء بالنجوم واضحاً ختمه بيعلمون أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها ولما كان الإِنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق ختمه بقوله تعالى: { يَفْقَهُونَ } إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدر به الكلام.
{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } لما ذكر إنعامه تعالى بخلقنا ذكر انعامه علينا بما يقوم به أودنا ومصالحنا. والسماء هنا: السحاب. والظاهر أن المعنى بنبات كل شىء ما يسمى نباتاً في اللغة وهو ما ينمى من الحبوب والفواكه والبقول والحشائش والشجر، ومعنى كل شىء مما ينبت، وأشار إلى أن السبب واحد والمسببات كثيرة. وقال الطبري: نبات كل شىء جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء.
وفي قوله: { فَأَخْرَجْنَا } التفات من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.
{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } أي من النبات.
{ خَضِراً } غضّا ناضراً طرياً.
{ نُّخْرِجُ مِنْهُ } جملة في موضع الصفة لخضرا ويجوز أن يكون استئناف اخبار.
{ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } أي من الخضر كالقمح والشعير وسائر القطاني، ومن الثمار كالرمان والسنوبر. وغيرهما مما تراكب حبه وركب بعضه بعضاً.
{ مِن طَلْعِهَا } بدل من قوله: ومن النخل، أعيد فيه حرف الجر. والطلع: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، أطلعت النخلة: أخرجت طلعها.
{ قِنْوَانٌ } القنو بكسر القاف وضمها: العِذق بكسر العين، وهو الكباسة وهو عنقود النخلة. وجمعه في القلة أقناء وفي الكثرة قِنوان بكسر القاف في لغة الحجاز وضمها في لغة قيس، وبالياء بدل الواو في لغة ربيعة وتميم بكسر القاف وضمها. ويجتمعون في المفرد على قِنو وقَنو بالواو ولا يقولون فيه قَنى ولا قِنى.
{ دَانِيَةٌ } أي قريبة من المتناول. وهذه الجملة مبتدأ وخبر قطعت مما قبلها في الاعراب لما في تجريدها من عظم المنة والنعمة إذ كانت من أعظم قوت العرب لتدل على الثبوت والاستغراق وأن ذلك مفروغ منه، فلها شبه بالحب المتراكب في القوت ولها شبه بالتفكه كالعنب المذكور فناسب الاعتراض بهذه الجملة بينهما. قال ابن عطية: ومن النخل تقديره ويخرج من النخل ومن طلعها قنوان ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بنخرج. "انتهى". هذا خطاب لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها مانع من أن يعمل في شىء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة في علم النحو. ونخرج ليست مما يعلق وليس في الجملة مانع من عمل الفعل في شىء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدر التسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج من النخل من طلعها قنواناً دانية بالنصب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ونخرجه من طلع النخل قنوان. "انتهى". لا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة في الاخبار بدونه، ومن قرأ: قنواناً دانية بالنصب أشرك بين ذلك وبين المنصوب قبله والمنصوب بعده.
{ وَجَنَّٰتٍ } معطوف على نبات، ولما جرد النخل جرد جنات الأعناب لشرفهما.
{ وَٱلزَّيْتُونَ } شجر معروف ووزنه فيعول كقيصوم لقولهم: أرض زتنة، ولعدم فعلون أو قلته. فمادّته مغايرة لمادة الزيت.
{ وَٱلرُّمَّانَ } فعال كالحماض والعناب وليس بفعلان لقوهم: أرض رمنة. قال الزجاج: قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره.
{ مُشْتَبِهاً } أي بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم وانتصب مشتبهاً على أنه حال من الرمان لقربه منه. وحذفت الحال من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير، والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك.
{ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } النظر نظر رؤية ولذلك عداه بإِلى لكن يترتب عليه الفكر والاعتبار والاستبصار والاستدلال على قدرة باهرة تنقله من حال إلى حال ونبه على حالين: الابتداء وهو وقت ابتداء الأثمار، والانتهاء وهو وقت نضجه.
والينع مصدر ينع بفتح الياء في لغة الحجاز وبضمها في لغة بعض نجد. وكذا الينع بضم الياء والنون والينوع بواو بعد الضمتين. يقال: ينعت الثمرة، إذا أدركت ونضجت وأينعت. كذلك أيضاً قال الفراء: ينع الثمر وأينع أي احمر. والعامل في إذا أنظروا وينعه معطوف على ثمره.
{ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الإِشارة بذلك إلى جميع ما سبق ذكره من فلق الحب والنوى إلى آخر ما خلق تعالى وما امتنّ به. والآيات: العلامات الدالة على كمال قدرته وإحكام صنعته وتفرده بالخلق دون غيره وظهور الآيات لا ينفع إلا لمن قدر الله له الإِيمان وأما من سبق قدر الله له بالكفر فإِنه لا ينتفع بهذه الآيات فنبه بتخصيص الإِيمان على هذا المعنى وانظر إلى حسن مساق هذا الترتيب لما تقدّم أن الله فالق الحب والنوى جاء الترتيب بعد ذلك تابعاً لهذا الترتيب: فحين ذكر أنه أخرج نبات كل شىء ذكر الزرع وهو المراد بقوله تعالى: { خَضِراً } فخرج منه حباً متراكباً. وابتدأ به كما ابتدأ به في قوله: فالق الحب، ثم ثني بماله نوى فقال: ومن النخل من طلعها قنوان، إلى آخره، كما ثنى به في قوله: والنوى، وقدم الزرع على الشجر لأنه غذاء والثمر فاكهة والغذاء مقدم على الفاكهة. وقدم النخل على سائر الفواكه لأنه يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، وقدم العنب لأنه أشرف الفواكه وهو في جميع أطواره ينتفع به حنوط ثم حصرم ثم عنب ثم أن عصر كان منه خل ودبس وإن جف كان منه زبيب، وقدم الزيتون لأنه أكثر في المنفعة في الأصل وفيما يعصر منه من الدهن العظيم النفع في الأكل والاستصباح وغيرهما وذكر الرمان لعجب حاله وغرابته في أنه مركب من قشر وشحم وعجم وماء، فالثلاثة باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وماؤه بالفنذ ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى خير الاعتدال، وفيه تقوية للخراج الضعيف غذاء من وجه دواء من وجه، فجمع تعالى فيه بين المتضادين المتعاقدين فما أبهر قدرته وأعجب ما خلق.