التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٠٣
وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٠٤
حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
١٠٥
قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
١٠٦
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ
١٠٧
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
١٠٨
-الأعراف

النهر الماد

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ } الآية لما قص الله تعالى على نبيه أخبار الأمم وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تعنتاً واقتراحاً وكان قد بقي منهم عالم وهم اليهود فقص تعالى قصصهم لنعتبر وننزجر أن نشبّه بهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله تعالى في كتابه ونسباً لكونهما من نسل إبراهيم عليه السلام ولما استفتح قصة نوح بأرسلنا بنون العظمة أتبع ذلك بقصة موسى فقال: ثم بعثنا، والضمير في من بعدهم عائد على الرسل. وفي قوله: { { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ } [الأعراف: 101]، وتعدية فظلموا بالباء على سبيل التضمين بمعنى كفروا.
{ وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } هذه محاورة من موسى لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعي به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له: فرعون، كنمرود في يونان، وقيصر في الروم، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة، وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصياً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى عليه السلام بقوله: إني رسول من رب العالمين، لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق.
ولما كان قوله:
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } دعوى أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله: قد جئتكم ببينة. ولما قرر رسالة فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله: فأرسل، ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شىء مما ذكره موسى عليه السلام إلا أنه طلب المعجز، ودل ذلك على موافقته لموسى وأن الرسالة ممكنة لإِمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها، بل قال: إن كنت جئت بآية. ومعنى حقيق جدير، وخليف وارتفاعه على أن صفة لرسول أو خبر بعد خبر. وان لا أقول الأحسن فيه أن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل: يحق علي كذا ويجب ويجوز أن يكون أن لا أقول كأنه مبتدأ وحقيق خبره. وقال الزمخشري في القراءة المشهورة وهي قوله: عليّ أن لا أقول أشكال ولا يخلو من وجوه أحدها أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإِلباس كقول الشاعر:

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح.
انتهى هذا الوجه وأصحابنا يخصون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القرآن عنه وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع. قال الزمخشري: والثاني ان ما لزمك فقد لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق أي لازماً له. قال الزمخشري: والثالث أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب. "انتهى". ويعني بالكتاب كتاب سيبويه. والبيت المنشد نصفه:

إذا تغنى الحمام الورق هيجني ولو تسليت عنها أم عمار

قال: والرابع وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روي ان عدو الله فرعون قال له لما قال: إني رسول من رب العالمين، كذبت، فيقول: انا حقيق على قول الحق، أي واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به. "انتهى". ولا يصح هذا الوجه إلا ان عنى أنه يكون على أن لا أقول صفة له كما تقول: انا على قول الحق، أي طريقتي، ودعاني قول الحق، وقال ابن مقسم: حقيق من نعت الرسول أي رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق على برسول، ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله: حقيق. "انتهى". وهذا الكلام فيه تناقض في الظاهر لأنه قدر أولاً العامل في على أرسلت. وقال أخيراً إنهم غفلوا عن تعليق علي برسول، فأما الأخير فلا يجوز على مذهب البصريين لأن رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز. وأما التقدير الأول وهو إضمار أرسلت ويفسّره لفظ رسول فهو تقدير سائغ ويتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله: عن تعليق على برسول أي بما دل عليه رسول.
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ } الآية، لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبيّنة والخارق المعجز استدعى منه فرعون خرق العادة الدال على الصدق، وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتجويزه ذلك، ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرر في ذهن فرعون أن موسى عليه السلام لا يقدر على الإِتيان ببينة، والمعنى ان كنت جئت بآية من ربك فأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك.
{ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } هذه إذا الفجائية وفيها خلاف مذكور في النحو وبدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة، منها انقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإِعجاز ويحصل بانقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيرها وتلقفها لحبال السحرة وعصيهم وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإِلقاء حقيقة في الاجرام.
{ وَنَزَعَ يَدَهُ } أي جذب يده، قيل: من جيبه، وهو الظاهر لقوله تعالى:
{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } [النمل: 12] وللناظرين أي للنظارة وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض العجب بها للنظارة إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة. وقال ابن عباس: صارت نوراً ساطعاً يضيء ما بين السماوات والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم وما أعجب أمر هذين الخارقين العظيمين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء والأخرى في غير نفسه وهي العصا. وجمع بذينك تبدل الذوات من الخشبة إلى الحيوانية وتبدل الأعراض من السمرة إلى البياض الساطع فكانا والتي على جواز الأمرين وأنهما كلاهما ممكن الوقوع وكان موسى عليه السلام أسمر.