التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١١
ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٢
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١١٣
وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
١١٤
-التوبة

النهر الماد

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } الآية، نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو "وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك ولربك والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة فاشترط رسول الله حمايته مما يحمون منه أنفسهم. واشترط لربه التزام الشريعة وقتل الأحمر والأسود في الرفع عن الحوزة فقالوا: ما لنا على ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: الجنة. فقالوا: نِعْم ربح البيع لا نقيل ولا نقائل" . وفي بعض الروايات: ولا نستقبل. فنزلت. والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. والظاهر من قوله في التوراة والإِنجيل والقرآن أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله: اشترى. والأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع.
{ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } هذا استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى ولما أكد الوعد بقوله: حقاً أبرزه في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائزاً خلافه والعهد لا يجوز إلا الوفاء به إذ هو آكد من الوعد، قال الزمخشري: ومن أوفى بعهده من الله لان اخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام في الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط. ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال واستعمال قط في غير موضعه لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه قبيح قط. وقط: ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي.
ثم قال: { فَٱسْتَبْشِرُواْ } خاطبهم على سبيل الالتفات لأن في مواجهته تعالى بالخطاب تشريفاً لهم وهي حكمة الإِلتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد.
و{ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } وصف على سبيل التوكيد ويحيل على البيع السابق.
ثم قال: { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي الظفر للحصول على الربح التام، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.
{ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ } الآية: قال ابن عباس: لما نزلت ان الله اشترى، الآية، قال رجل: يا رسول الله وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فنزلت: التائبون.. الآية. وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إلى التحلي بها عباده وليكونوا على أوفى درجات الكمال، التائبون قيل: هو مبتدأ خبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الأوصاف. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف وتقديره من أهل الجنة، وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن إذ بدأ أولاً بما يخص الإِنسان مرتبة على ما ينبغي، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإِنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما يشمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله تعالى. ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله عليه السلام بأن يبشر المؤمنين. وفي الآية قبلها: فاستبشروا، أمرهم بالاستبشار فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار وأمر رسوله أن يبشرهم.
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } الآية
"نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه، وقال: أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد لولا اني أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدى لأقررتُ بها عينك. ثم قال: أنا على ملة عبد المطلب ومات. فنزلت: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } فقال عليه السلام لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فكان يتسغفر له حتى نزلت هذه فترك الاستغفار لأبي طالب" .
{ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } الآية، ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدي به، ولذلك قال جماعة من المؤمنين: سنستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم. والموعدة التي وعدها إبراهيم إياه هي قوله: { { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } [مريم: 47]. وقوله: لأسغفرنَّ لك. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم وكان أبوه بقيد الحياة فكان يرجو إيمانه، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه، وقطع عنه استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم قراءة الحسن وابن السميقع وأبي نهيك ومعاذ القارىء وحماد الراوية وعدها إياه. وقيل: الفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم وعده أبوه أنه سيؤمن وكان إبراهيم عليه السلام قد قوي طمعُهُ في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.
{ لأَوَّاهٌ } الأواه الخاشع المتضرع. وقيل غير ذلك. قال الزمخشري: أواه فعال من أَوَهَ، كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورأفته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر إلى آخره. وتشبيهه أواه من أوه بلأل من اللؤلؤ ليس بجيد، لأن مادة أَوَهَ موجودة في صورة أواه، ومادة لؤلؤ مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لأل ثلاثي ولؤلؤ رباعي وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية.