التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٧
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
٢٨
فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ
٢٩
-يونس

تيسير التفسير

{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ } الشرك أَو الكبائِر ومن الكبائِر الصغائِر المصر عليها، وكل ذلك موجب للخلود فى النار، وهو مبتدأٌ ولا يخبر عنه بقوله { جَزَاءُ } لأَن الذوات لا يخبر عنها بالمعانى والأَوائِل تأْخذ مكانها فيعتبر ما يلحق بها فإِن لم يوجد قدر فى الأَخر لأَنها محل التغيير والتقدير فى الأَوائل تقدير قبل الحاجة إِليه، فيقدر هنا ذوو جزاءِ أَولى من أَن يقدر وجزاء الذين كسبو السيئات جزاءُ { سَيِّئَةٍ } وقوله { بِمِثْلِهَا } متعلق بجزاء أَو سيئة مبتدأٌ وخبره محذوف، أَى مقدر بمثلها أَو مثل خبر، والباءُ زائِدة والجملة خبر الذين والرابط محذوف، أَى جزاءُ سيئَة منهم أَو سيئَة لهم، وهذا المقدر نعت لسيئَة أَو جزاءٌ مبتدأُ خبره محذوف، أَى لهم جزاءٌ سيئة بمثلها، والجملة خبر الذين وهو أَنسب بقوله للذين أَحسنو الحسنى أَى لهؤُلاءِ الحسنى ولهؤُلاءِ جزاء سيئَة بمثلها، وهذا فى معنى عطف الذين على الذين وسيئَة على الحسنى عطف معمولين على معمولى عاملين مختلفين، منعه سيبويه مطلقا وأَجازه الفراءُ مطلقاً وأَجازه الجمهور بشرط تقدم المجرور كما فى الآية، فيجوز: فى الدار عمرو والحجرة زيد، بجر الحجرة، ولا يجوز عمرو فى الدار والحجرة زيد، أَو خبر الذين ما لهم إِلخ أَو كأَنما إِلخ وفيه الفصل بثلاث جمل أَو أُولَئِك إلخ بالفصل بأَربع { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } عطف على كسبوا عطف مضارعية على ماضوية ولا ضعف فى ذلك لأَن حاصله الإِخبار بأَنه كان كذا فيما مضى ويكون كذا فى المستقبل، أَو عطف على ما قبله عطف معنوياً كعطف التوهم كأَنه قيل والذين كسبوا السيئات تجازى سيئَتهم بمثلها وترهقهم ذلة { مَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ } أَى من عذاب الله على حذف مضاف، ويجوز أَن لا يقدر مضافاً كما تقول جاءَنى كتاب من زيد، ويتعلق بمحذوف من ضمير الاستقرار، وقيل حال من عاصم وفيه مجىءُ الحال من المبتدإِ دون وجود شرطه والمشهور منعه لأَن عامله الابتداءُ وكيف يعمل الابتداءُ فى الحال ويكون مقيدا بالحال { مِنْ عَاصِمٍ } الجملة حال من هاءِ ترهقهم مالهم عاصم من عذابه إِذا جاءَهم أَى مانع بخلاف المؤمنين فإِن عملهم عاصم برحمة الله من عذابه والأَنبياءُ والعلماءُ والشهداءُ يشفعون { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجُوهُهُمْ قِطْعاً } فيه نيابة المفعول الثانى من باب أَعطى لعدم اللبس كقوله أُعطى درهم زيداً فإِن قطعا هو الأَول لأَنه الفاعل فى المعنى فلا تهم فإِن المصير غاشياً هو قطع تغشى الوجوه لا الوجوه تغشاها اللهم إِلا مبالغة فى استحقاق السوء، كأَن الوجوه هى الطالبة لأَن تغشى القطع والمفرد قطعة بكسر القاف كسدرة وسدر { مِنَ اللَّيْلِ } نعت قطعا ومن للتبعيض أَو للبيان { مُظْلِماً } حال من الليل وناصبه أُغشيت إِن جعلنا من الليل متعلقاً بأَغشيت ومن للابتداء أَومتعلق الليل أَى ثابتة من الليل حال كونه مظلماً. { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* وَيَوْمَ } اذكر لهم أَو ذكرهم يوم { نَحْشُرُهُمْ } أَى الخلق، وأَخر ذكر يوم الحشر مع أَنه متقدم على ما قبله من الخزى والعذاب والنار تلويحاً بأَن كلا من السابق واللاحق مستقبل بالاعتبار ولو قدم ذكره على ما ذكر قبله لكان مساق الآية أَن ذلك كله معتبر واحد { جَمِيعاً } المشركين والموحدين وإِن أُريد المشركون فالإِظهار فى قوله { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ } للتشنيع بالشرك فمقتضى الظاهر ثم نقول لهم، وإِن أُريد بها نحشر الخلق المؤمن والكافر فالتقدير للذين أَشركوا منهم وشركاءُ معطوف على المستتر فى مكانكم لأَن المعنى الزموا مكانكم حتى تروا ما يفعل بكم، وقد فصل بتأْكيده وهو أَنتم، وقال الفارسى مكانكم اسم فعل وفتحه بناء ومعناه اثبتوا ولا تنتقلوا { فَزَيَّلْنَا } فرقنا { بَيْنَهُمْ } وقطعنا الوصل الذى كان بينهم والمفعول به محذوف تقديره الوصل، وبين ظرف، وأَجاز بعض أَن يكون مفعولا به ومعناه الوصل وشد للمبالغة لأَنه يقال زال ضانه من معزه، ويزيلها بفتح الياءِ الأُولى وعينه ياءٌ، ولا يجوز أَن يقال من زال يزول وهو من لازم شدد للتعدية، وإِن أَصله زولنا بشد الواو لأَنه لو كان كذلك لم يكن بياءٍ مشددة بل يكون بواو مشددة، إِذ لا موجب للقلب، ولا أَن يقال أَصله زَيْوَلْنَا قلبت الواو ياءً وأُدغمت فيها ياءُ الإِلحاق على زيد تدحرج إِلحاق يدحرج لأَن باب الإِلحاق خلاف الأَصل فلا يرتكب بلا حجة. وعلى فرض الإِلحاق يكون المصدر فيعلة كدحرجة، ولا تفعيل كتقديس إِذا استعملناه، ومقتضى الظاهر فنزيل بينهم بشد الياءِ وصيغة المضارع كنقول ونحن لكن الماضى لتحقيق الوقوع كأَنه وقع وكذا فى قوله: { وَقَالَ } بلسان الحال أَو لسان المقال { شُرَكَاءُهُمْ مَّا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } وأَضاف الشركاءُ هناك وهنا إِليهم لأَنهم هم المثبتون الشركة بين الله وبين أَصنامهم والإِضافة تسوغ لأَدنى ملابسة أَو لأَنها شريكة لهم فى مالهم باختيارهم إِذ جعلوا لها نصيباً فى أَموالهم ينطقها الله فتنفى أَن تكون معبودة لأَنها لا شعور لها، وعلى فرض أَن الله أَعلم الشركاءَ يوم القيامة باَن المشركين فى الدنيا عبدوها يكون إِنكارها دهشاً أَو باعتبار نفى منفعة عبادتهم لها فكأَنهم لم يعبدوها أَو باعتبارهم عبدوا الشياطين والأَهواءَ لأَنها الآمرة بالإِشراك، وأَما الشركاءُ فلم تأْمرهم بعبادتها ولا أَرادت أَن تعبد، وقيل الشركاءُ عيسى والملائِكة، وقيل الشياطين وفيه أَن الشياطين عالمون بعبادة المشركين لهم وقيل الملائِكة، ولا يلزم علمهم بها، وقد تعلم الشياطين لأَنهم يوسوسون ويمضون فى شأْنهم. قال الله عز وجل " { ثم نقول للملائِكة أَهَٰؤُلآءِ الذين } "[سبأ: 40] إِلخ، " { أَأَنت قلت للناس } " [المائدة: 116] إِلخ، إِلا أَن دعوتكم فاستجبتم لى، والعرب ما عبدت عيسى بل النصارى عبدته، وخزاعة خاصة من العرب عبدت الملائِكة، ويدل على أَن مراد الأَصنام قبل قوله تعالى:
{ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } حيث اشتشهدوا به تعالى وقوله تعالى { إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } سبحانك أَنت ولينا من دونهم حيث أَثبتوا لهم عبادة إِلا أَنهم زعموا أَنهم غافلون عنها، وقد يقال: نطقت الأَصنام بذلك بعد إِعلام الله تعالى لها ولا علم لها حال العبادة إِذ لا شعور للجماد، فالمشركون فى الحقيقة عبدوا الشياطين وأَهواءَهم، وأَن مخففة أَى أَنه أَى الشأْن أَو أَننا، وقدم إِيانا للاهتمام والفاصلة وقصر القلب، وفى الآية تلقى الشدة من الشركاءِ بالإِنكار فى مقام ترجى الشفاعة وذلك من أَعظم شىءٍ أَن يكون الشر حيث يرجى الخير، وإِيضاح القلب أَنهم يقولون ما عبدنا إِلا إِياكم الأَصنام فتقول الأَصنام: ما إِيانا عبدتم كما قلتم بل عبدتم الشياطين والأَهواءَ، فصح الحصر لا كما قيل لا يصح تنصب الأَصنام فتقول والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أَنكم عبدتمونا، فيقولون والله إِياكم كنا نعبد فكفى بالله إِلخ، كما قاله مجاهد فهو صريح فى الحصر والمراد بالغفلة عدم علمها بالعبادة وعدم الرضا بها.