التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦١
-يونس

تيسير التفسير

{ وَمَا تَكُونُ } يا محمد وتلتحق به أُمته { فِى شَأْنٍ } فى أَمر، من شأَنته أَى قصدته مصدر بمعنى مفعول أَى مقصود وتغلبت عليه الاسمية، ويجوز إِبقاؤه على أَصله من المعنى المصدرى، أَى فى قصد، أَو على ما تفرع عليه من معنى مقصود ومعنى تغلب الاسمية إِنه بمعنى أَمر مطلق عن ملاحظة قصد أَو مقصود { وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ } من الشأْن أَو من الله أَو من القرآن، وعليه فالإِضمار له قبل ذكره تفخيم لمرتبة شهرته، وإِذا رد الضمير للشأْن فوجهه أَن تلاوة القرآن معظم شأْنه صلى الله عليه وسلم، وأَن القراءَة تكون لشأْن ومن للتعليل فى هذا الوجه، وإِذا رد إِلى القرآن فتبعيضية أَو إِلى الله فابتدائية. { مِنْ قُرْآنٍ } منزل عليك ومن صلة فى مفعول تتلو وبعض القرآن قرآن { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } يا محمد وأُمته والمضارع للاستمرار الماضى، حكاية له كأَنه حاضر { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } رقباءَ مطلعين، خص الخطاب به صلى الله عليه وسلم أَولا لأَن التلاوة هو الأَصل فيها، ولأَنها منه أَولا، وإِنما يقرأُ غيره تبليغا وتبعا له، ولأَن رئِيس القوم إِذا خوطب دخل قومه كقوله تعالى: " { يا أَيها النبى إِذا طلقتم } "[الطلاق: 1] كما أَن الأَمير يخاطب رئيس الكفار ويجرى حكم قومه على جوابه وكأَنه أَجاب عن قومه، وكذا خطاب الأَمير لهم يجرى قوم عليه، ولو جعلنا الخطاب فى تكون وتتلو للعموم البدلى لهم كما عم تعملون وعليكم إِلا أَنه يلزم أَن يكون قوله ولا تعملون إِلخ كالتكرير له، والمراد ما يكون ذلك كله فى حال من الأَحوال إِلا حال شهادتنا، وقدم عليكم لطريق الانتقام بما يكون انتقاما منهم مراعاة لجانب الكفار، ولو كان الكلام على العموم، ويجوز أَن يكون الخطاب فى تعملون وعليكم للكفار فالمراد ظاهر { إِذْ } متعلق بشهود أَو بكنا { تُفِيضُونَ فِيهِ } فيما ذكر من الكون فى شأْن والتلاوة والعمل والإِفاضة الدخول فى العمل { وَمَا يَعْزُبُ } ما يغيب، وعزب غاب وخفى ولو كان قريبا، ويفسر بالبعد لأَنه ملزم للخفاءِ والغيبة وسبب له { عَن رَّبِّكَ } عن علمه على حذف مضاف أَو عن ربك كناية عن علمه تعالى { مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ } من صلة فى الفاعل ومثقال وزن وهو فاعل وإِنما يعبر عن الوزن بالمثقال لاعتبار الثقل، فالمراد ما يوازن النملة الصغيرة جدا ويساويها فى الثقل الذى هو ضعيف لا يعلمه إِلا الله، أَو من اجتهد أَو الذرة الهباءَة والله مختص بعلم ثقلها ولا سيما إِن قلنا هى جزءٌ من أَلف جزءٍ من النملة أَو الخردلة ومثقال الشىءِ ميزانه، وذلك مثل فى القلة لا حصر، ولذلك قال { وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ } كما ذكر الأَرض والسماءَ مثلا لأَن العامة لا تعرف سواهما إِلا بتعليم، والمراد الأَرض والسماءُ والعرش والكرسى وكل موجود مخلوق لا خصوص الأَرض والسماءِ والله جل وعلا لا يوصف بكل ولا بجزءٍ، والمثقال فى الجاهلية والإِسلام لا يختلف هو أَربعة وعشرون قيراطا والدرهم ستة دوانق وعشرة دوانق سبعة مثاقيل، وقدم الأَرض لأَنها أَقرب إِلى المخاطبين وهم بها أَعرف منهم بالسماءِ ولأَن الكلام فى حال أَهلها والبرهان عليهم، وفى الأَرض حال من ذرة لتقدم النفى والنعت أَولى، ولا يجوز تعليقه بيعزب لأَنه يؤدى إِلى أَن الله تعالى فى السماءِ والأَرض حلولا، وقوله ولا أَصغر من ذلك إِلخ كلام مستأْنف مقرر وما قبله، ولا عاملة عمل إِن وما اسمها معرب لشبهه بالمضاف، أَو عاملة عمل ليس لا عاطفة على ذرة لأَنه يبقى قوله { إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } متعطل إِلا أَن يجعل استثناءً منقطعا أَى لكن كل شىءٍ فى كتاب مبين، إِلا أَن الحمل على الاستثناءِ المنقطع خلاف الأَصل لا يحمل عليه الكلام إِلا لداع صحيح راجح أَو متعين، فالوقف على السماءِ، ولو جعل لا عاطفة على مثقال وجعل الاستثناءُ متصلا لكان المعنى لا يغيب عن ربك شىءٌ فى حال من الأَحوال إِلا حال كونه فى كتاب مبين. وهو فاسد لأَنه أَثبت الخفاءَ عن الله اللهم إِلا أَن يحمل على تأْكيد المدح بما يشبه الذم كأَنه قال إِن خفى عنه شىءٌ فهو فى اللوح المحفوظ ومعلوم أَنه لم يكتب فيه خفاءُ شىءٍ عنه، لكن لا يحسن التخريج على هذا لأَن الكلام على الكفار الغلف ولا يفهمون هذا ولو فهموا مثله فى غيره من الكلام فلا يحملون كلامه عليه وإِنما يحمله عليه من تحقق إِيمانه، وجاز العطف بلا والاتصال على أَن معنى يعزب يصدر أَى لا يصدر عن الله شىءٌ إِلا وهو فى كتاب مبين، والاستثناءُ إِذا جعلنا ولا أَصغر كلاما مستقلا عما قبله يكون مفرغا والمفرغ لا يقال متصلا ولا منفصلا، والحق أَنه متصل لأَن المقدر فيه أَبدا عام لما بعد إِلا ولا تعين العطف آية رفع أَصغر وأَكبر بدون من لأَن لا فيها غير عاملة، وما بعدها مبتدأٌ لا معطوف على المرفوع قبله، أَو عملت عمل ليس وقدر بعض لا شىءَ إِلا فى كتاب مبين، وبعض جعل إِلا فى كتاب مبين استثناءً مما قبل قوله ولا يعزب وهو تكلف، وقيل لا عاطفة على مثقال وإِلا عاطفة كقوله تعالى إِلا من ظلم فى أَحد الأَوجه ويقدر المبتدأُ هكذا، وهو فى كتاب مبين. وهو تعسف والكتاب المبين اللوح المحفوظ لا علم الله لئَلا يلزم التأكيد والتأْسيس أَولى منه.