التفاسير

< >
عرض

فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ
٨٣
وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ
٨٤
فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٨٥
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٨٦
-يونس

تيسير التفسير

{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى } انقاد له أَول أَمره كما تدل له الفاءُ لما أَلقوا وأَلقى عقبه إِيمان قليل كما قال { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ } شبان { مِنْ قَوْمِهِ } من قوم موسى على معنى أَن غالب ذرية بنى إِسرائيل كفروا حين كانوا فى حكم فرعون، دعاهم موسى فلم يجيبوه إِلى الإِسلام، وأَجابه القليل منهم سراً كما قال { عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ } أَن يعاقبهم على الإِيمان بموسى، وعلى خوف بمعنى مع خوف، وهو متعلق بمحذوف حال. وقيل الذرية الإِسرائيليون الذين بمصر أَرسل إِليهم موسى وقد كفروا بالقهر ومخالطة القبط، كما أَرسل إِلى القبط. هلك الآباءُ وبقيت الأَبناءُ وسموا ذرية بهذا الاعتبار، وقيل نجا قوم من قتل فرعون وكفروا، كانت المرأَة إِذا ولدت ولدا أَسلمته لقبطية خوفاً عليه فينشأُ على الكفر، ولما غلب موسى آمنوا، ولفظ ذرية للقلة وحداثة السن، وقيل المراد مطلق الإٍسرائيلين، كانوا على الإِيمان ولم يطيقوا إِظهاره، ورجوع هاءِ قومه إِلى موسى هو الظاهر، وقيل الهاءُ لفرعون وفيه أَنه لو كان كذلك لقيل إِلا ذرية من قومه على خوف منه برد الهاءَين إِلى فرعون لظهور أَنه لا خوف من موسى على الإِيمان، أَو قيل إِلا ذرية من قوم فرعون على خوف منه كامرأَة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازنه وامرأَة خازنة وماشطة ابنتى فرعون، وقيل ماشطة فرعون نفسه، كانت له ضفائِر عين لها ماشطة. قال الفراءُ: سموا ذرية لأَن آباءَهم من القبط، كما سمى أَولاد فارس الذين نقلوا إِلى اليمن الأَبناءُ لأَن أَمهاتهم من غير جنس الآباءِ، وكان الرجل يتبع أُمه وخاله فى الإِيمان، واعترض رد الضمير لفرعون ببعده وقرب موسى، مع أَن إِعلان الإِيمان من قوم فرعون غير منقول قبل هلاكه إِلا السحرة، وبأَن موسى هو المحدث عنه، واعترض بأَن الكلام فى قوم فرعون لأَنهم القائِلُون أَنه ساحر، وأَن بنى إِسرائيل فى قهر فرعون وبشروا بالخلاص على يد مولود نبى صفته كذا، ولما ظهر اتبعوه، ولم يعرف أَن أَحدا منهم خالفه، وفى الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأَن معجزات موسى مدركة بالحس ظاهرة، ومع ذلك لم يؤمن به من قومه إِلا قليل { وَمَلَئِهِمْ } ملإِ فرعون، وكان بضمير الجمع على عادة الناس فى رد ضمير الجمع للواحد تعظيماً على فرض اعتياد ذلك فى قوم فرعون كما يصف الله الأَصنام بصيغ العقلاءِ كالذين لأَن ذلك عادة عابديها، واعترض بأَن التعبير بالواحد عن الجمع تعظيماً معتاد فى التكلم كما يقال نحن فعلنا والمراد واحد والخطاب نحو رب ارجعون وقوله: أَلا فارحمونى يا إِله محمد. إِلا أَن الفارسى نقله فى الغائب، والحافظ حجة والمثبت مقدم عن النافى، أَو فرعون هنا اسم لقومه كعاد وثمود اسم للقبلتين مسميين باسمى أَبويهما، وكربيعة ومضر وقريش، واعترض بأَن هذا فى القبيلة وأَبيها وفرعون ليس أَبا للقبط مع أَن مثل هذا محتاج إلى السماع لا مقول بالقياس، فلا يقال فلان من هاشم بل من بنى هاشم وهكذا، أَو الهاءُ للذرية أَو لقوم موسى أَو قوم فرعون سواءٌ جعلنا الضمير فى قومه لموسى أَو لفرعون، وإِذا جعلنا الهاءَ للذرية فالمراد ذرية فرعون لا ذرية موسى، إِذ لا وجه لخوف الذرية المؤمنة من ملئِهم، إِلا أَن يراد ملأُ بنى إِسرائيل الناشئِين تحت فرعون فى كفر أَو الناشئِين فى إِيمان، خافوا الهلاك على من دونهم فمنعوهم من الإِيمان أَو إِظهاره، وقيل عائِد إِلى الأَل المقدر هكذا، على خوف من آله فرعون، ويرده أَنه لا دليل عليه، وقد وجدنا مرجعاً للهاء بدون هذا التقدير، وكذا يرد على من قدر على خوف من فرعون وقومه وملئِهم، وقول السعد والرضى جمع المفرد تعظيماً مختص بضمير المتكلم غير مسلم، بل يقع فى ضمير المخاطب والغائب أَيضاً كما مر، والظاهر كما ورد لأَن العلة واحدة، وإِذا أَطلق اسم الأَب على قبيلته فتارة يراد معها وتارة تراد دونه، وإِذا عبر بآل فلان فتارة يراد فلان وتارة كلاهما وتارة أَهله دونه { أَن يَفْتِنَهُمْ } يصرفهم عن دينهم بالعذاب، والمصدر بدل اشتمال من فرعون أَو مفعول به لخوف من إِعمال المصدر المنون أو علة لمحذوف أَى أَسروا لئَلا يفتنهم، ولم يجمع ضمير الرفع فيعود لفرعون والملأَ، لأنَ الصرف والعذاب منهم تبع له وعمل بأمره، وكأَنهم لم يخافوا سواه، وإِن أُريد من فرعون قومه على ما مر فرد الضمير إليه هنا لنفسه خاصة استخدام{ وَإِنَّ فِرْعْونَ لَعَالٍ } متكبر غالب.{ فِى اْلأَرْضِ } هذا تأْكيد لما قبله لأَن العلو من أسباب تمكن التعذيب، والمراد بالأَرض أَرض مصر{ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } المبالغين فى التكبر حتى ادعى الربوبية وطرح العبودية حتى قال أنا ربكم الأَعلى، واسترق أَسباط الأَنبياءِ وسفك الدماءَ.
{ وَقالَ مُوسَى } تثبيتا للقلوب من آمن به إذ خافوا{ يَاقَوْمِ } خطاب لبنى إسرائيل أو لمن آمن به، ولو من القبط فإن الإِيمان به كالكون من قومه{ إِنْ كنْتُمْ آمَنتمْ بِاللهِ فَعَليْهِ } لا على غيره{ توَكَّلُوا إِنْ كُنتمْ مُسْلِمِين } هذا الشرط شرط لجواب الشرط الأَول مع شرطه، فليس من تعليق الحكم بشرطين لأَنه لا يجوز إلا بالتبعية كالعطف، وذلك كقوله إن جاءَ زيد فأَطعمه إن جاع، فالجوع شرط بمجيءِ زيد ووجوب إِطعامه، والشرط وجوابه مغنيان عن جواب الشرط الثاني والمعلق بالإِيمان وجوب التوكل المأْخوذ من الأَمر المجرد عما يخرجه عن الوجوب، والمشروط بالإِسلام حصوله، فإنه لا يوجد مع اختلاط تعميده تعالى باعتماد غيره، ومقام التسليم فوق مقام التوكل، إِن كنتم مسلمين توكلتم عليه، وليس هذا قاعدة، والحق ما ذكرته، وهذا كما نقول في الضمير المتأَخر لفظاَ يجب تقدمه معنى، والمتقدم لفظاً يجب تأَخره معنى كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً ومجموع قولك إِن دخلت الدار فأَنت طالق مشروط بقولك إن كلمت زيداً، والإسلام هنا الاستسلام بالأَعمال وإلغاءُ النفس، والإيمان التصديق، والتوكل إسناد الأُمور إليه تعالى، والدعاء والتسبب لا ينفيان التوكل إذ بنيا عليه.
{ فَقَالُوا عَلَى اللهِ } لا على غيره{ تَوكَّلْنا } الفاءُ لترتيب قولهم هذا على قول موسى باتصال وقدموا على الله للحصر، كما طلب موسى، وكون توكلنا إِنشاءً أَولى من أن يكون إخباراً{ رَبَّّنا لا تّجْعَلْنَا فِتْنَةً } أى محل فتنة بتقدير مضاف لأَنَ المعانى لا تحمل على الذوات، وحذف المضاف لتكون الصورة مبالغة{ لْلقَوْمِ الظَّالِمينَ } فرعون وقومه، وأل للعهد، أَظهر فى موضع الإضمار للوصف بالظلم، أَو يراد مطلق الظالمين فيدخل فرعون وقومه، ومعنى جعلهم فتنة للظالمين أَن يغلبهم الظالمون فيظن الظالمون ومن ضعف إيمانه أَن المؤمنين ليسوا على الحق فيستمروا على الكفر ويتبعهم الضعفاء، أو معناه أَن تسلطهم علينا فيعذبونا، أَو معناه أَ يفتنونا عن ديننا.
{ وَنَجَّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اْلقَومِ اْلكَافِرِينَ } فرعون وقومه فوضع الظاهر موضع المضمر أو الكافرين على الإطلاق كما مر، والمراد نجنا من كيدهم وشؤْمهم أَو من أَيديهم أَو شؤْم مشاهدتهم لأَن معاشرة الأَشرار مصيبة تتعب الأَبرار وتزيد فجوز الفجار، أَو الظالمين الملأُ الذين تخافون منهم، والكافرين ما يعمهم وغيرهم، وقدموا التوكل على الدعاءِ بأَن لا يجعلهم فتنة وبالتنجية لتجاب دعوتهم لأَنه من لم يتوكل يضطرب.