التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٦
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٧
-هود

تيسير التفسير

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ } جزاءَ ما أَصروا عليه من شرك وما دونه من عمل أَو اعتقاد، وقد قال القرطبى عن بعض العلماءِ إِن الآية فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إِنما الأَعمال بالنيات" ، فكل عمل لا يعمل إِلا على وجه القربة لا تؤْخذ الأُجرة عليه. والآية دلت على ذلك، وكذا شرط العلم فى النيات، فمن صام رمضان قضاءً آخر، وللكفارة أَو غير ذلك لم يجزه لرمضان ولا لغيره، ومن غسل للتبرد لم يجزه{ وَحَبِطَ } بطل { مَا صَنَعُوا } من الحسنات لصلة رحم وصدقة وتوحيد وغير ذلك من الفرض والنفل أَى بطل جزاءُ ما عملوا أَو عملوا اسم لمسببه، أَو بطل نفس عملهم كأَنه لم يعملوه لعدم وجود ثمرة له، وذلك الحبوط فى الآخرة لا فى الدنيا، لأَنهم قد استوفوه فيها { فِيهَا } متعلق بصنعوا والضمير للدنيا أَى بطل فى الآخرة ما صنعوا فى الدنيا، أَو بطل فى الدنيا ما صنعوا فى الدنيا أَو عائِد إِلى الآخرة فيتعلق بحبط لا بصنعوا لأَنه لا عمل فى الآخرة، والمعنى حبط فيها أَى فى الآخرة ما صنعوا فى الدنيا، فحذف فى الدنيا للعلم به وعلى كل حال المراد حبط ما صنعوه أَو حبط صنعهم { وَبَاطِلٌ } معطوف على ليس لهم فى الآخرة إِلا النار عطف مفرد على جملة، وكذا إِن عطف على حبط ما صنعوا { مَا } فاعل لباطل أَو مبتدأٌ خبره باطل، والجملة معطوفة كذلك عطف جملة على أُخرى وعليه قدم باطل للفاصلة { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ما يعملونه أَو عملهم، والكلام على المجموع لأَن بعض الأَشقياءِ العاملين لا جزاءَ لهم فى الدنيا ولا فى الآخرة وبعض يثاب فى الدنيا فقط وبعض فى الآخرة فقط، مثل أَن ينقص من عذابه، وبعض يثاب فيهما، وثواب الآخرة للشقى النقص فى الآخرة، روى قومنا أَنه رؤى أَبو لهب فقال يخفف عنى فى كل الاثنين لأَنى سررت بمحمد إِذ ولد يوم الاثنين وأُعتقت ثويبة لما بشرتنى وأَسقى فى مثل نقرة الإِبهام والله أَعلم بصحة ذلك، وكونه خصوصاً من عموم أَن الكافر لا يخفف عنه، وروى مسلم عن أَبى هريرة أَنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أَنا أَغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملا أَشرك فيه معى غيرى تركته وشركه" ، وفيه روايات أُخر، وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" "من تعلم علماً لغير الله أَو أَراد به غير الله فليتبوأُ مقعده من النار" . رواه الترمذى. وعن أَبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلم علما مما يبتغى فيه وجه الله لا يتعلمه إِلا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" . يعنى ريحها رواه أَبو داود. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أَن فيه خيراً ولا خير فيه" ، وذلك فى نحو المرائى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا كان يوم القيام يؤْتى برجل قرأَ جميع القرآن فيقال له: ما عملت فيه؟ فيقول: قمت به آناءَ الليل وأطراف النهار" . فيقول الله تعالى: كذبت، أَردت أَن يقال فلان قارىءٌ، وقد قيل ذلك، ويؤْتى بصاحب المال فيقول الله تعالى: أَلم أُوسع عليك؟ فماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول: وصلت الرحم وتصدقت. فيقول الله تعالى: كذبت، بل أَردت أَن يقال فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤْتى بمن قتل فى سبيل الله فيقول: قاتلت فى الجهاد حتى قتلت. فيقول الله تعالى: كذبت، بل أَردت أَن يقال فلان جرىءٌ مقدام فارس. قال الراوى قال أَبو هريرة: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتى وقال: يا أَبا هريرة، أُولئِكَ الثلاثة أَول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة. ورواه مسلم مختصرا. وذكر أَن أَبا هريرة بكى بكاءً شديداً ثم قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كان يريد الحياة الدنيا إِلخ، وروى أَن أَبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى حتى ظننا أَنه هالك، فقال صدق الله ورسوله، { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إِليهم أَعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أُولئِك الذين ليس لهم فى الآخرة إِلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } وذكر من يريد بعمله الآخرة بقوله:
{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } الهمزة داخلة على جملة معطوف عليها بالفاءِ، التقدير اذكر من كان يريد الحياة الدنيا فاذكر من كان على بينة أَو يقال من كان يريد الحياة الدنيا فيقال من كان على بينة وإِذا قدرنا اذكر فمعناه أَقول فى الذى بعد الفاءِ أَو من كان مستبصراً أَفمن كان على بينة أَو الهمزة مما بعد الفاءِ فالمعطوف عليه من كان يريد الحياة الدنيا إِلخ، والهمزة للإِنكار والفاءُ للتعقيب، أَنكر أَن يعقب من كان على بينة من لم يكن عليها أَو يقاربه فضلا عن أَن يماثله والذى على بينة هو النبى صلى الله عليه وسلم أَو المؤمنون أَو كلاهما أَو مؤمنو أَهل الكتاب ويأْبى عنه أُولئِك يؤمنون به، وعلى الأَول يكون الجمع فى قوله أُولئِك إِلخ تعظيماً، والبينة القرآن أَو البرهان، والقرآن برهان أَو الحذف هنا مثله فى قوله أَفمن زين له، أَمَّن هو قانت، والتقدير أَفمن كان على بينة من ربه إِلخ كمن يريد الحياة الدنيا أَو كمن ليس على بينة من ربه إِلخ، فيعبر عنه بقولنا كمن ليس كذلك أَو على أَن شرطية فكمن بالفاءِ ومن مبتدأُ خبره مقدر كما رأَيت، ومن الغريب ترجيح بعض أَن يقدر أَمَّن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، يعقبونهم أَو يضربونهم مع أَن هذه عبارة ينزه القرآن عنها. وما مراده إِلا الرد على الإِمام أَبى حيان ولو أَنصف لهذا الإِمام لكان أَولى، وادعى بعض أَن التقدير إِذا لم يأْتوا بعشر سور مثله فقل لهم أَفمن كان{ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يتبعه شاهد هو جبريل يأْتيه من الله والهاءُ لمن والشاهد القرآن على أَن البينة مطلق البرهان أَو على أَنها القرآن يكون سماه باسم الشاهد وباسم البينة لاختلاف مفهوميهما فإِن مفهوم البينة البيان ومفهوم شاهد الإِخبار بالواقع، أَو البينة الدليل العقلى، ويجوز أَن يكون يتلوه يقرؤه فتكون الهاءُ للبينة، وضمير المذكر للتأْويل بالقرآن أَو البرهان، ويجوز أَن يكون الشاهد جبريل يتلوه أَى البينة أَى القرآن أَى يقرؤه أَو الشاهد النبى صلى الله عليه وسلم يتلوه أَى يقرأ القرآن المعبر عنه بالبينة، وفيه أَن الكفار لا يعتذرون بشهادته لنفسه، أَو البينة القرآن والشاهد الإِنجيل، أَو عبد الله بن سلام كما قال الله عز وجل
" { وشهد شاهد من بنى إِسرائيل على مثله } "[الأحقاف: 10] أَو الشاهد المعجزات وأُفرد لأَنها كلها دليل وهاءُ منه لله أَو للرسول على أَن الشاهد لسانه صلى الله عليه وسلم وفيه ما ذكر، وروى الطبرى والطبرانى عن محمد بن الحنفية ـ وهو ابن على بن أَبى طالب ـ لأَبيه: إِن الناس يزعمون أَنك التالى الشاهد فى قوله ويتلوه شاهد فقال: وددت أَنى هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رد لما روى عن بعض أَهل البيت عنه صلى الله عليه وسلم: "من كان على بينة من ربه أَنا" ، ويتلوه شاهد علىُّ، وإِن بعض الشيعة وضعه عن بعض أَهل البيت ليستدلوا به على أَن الإِمام على هو أَهل للإِمامة قبل الصديق ولا دليل لهم فيه { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } عطف على كان على بينة على أَن من اسم موصول أَو نكرة للتعظيم موصوفة أَو حال ويتعين الحال إِن جعلت شرطية والهاءُ للبينة بمعنى القرآن أَو للشاهد وكذلك، والكتاب التوراة تتلو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أَو تتلو القرآن أَى تتبعه بالتصديق أَوتقرؤه بمعنى أَنه يذكر فأَسند إِليها قراءَته والحاصل أَن التوراة تصدقه، والجملة مبتدأُ وخبر وكتاب موسى معطوف على شاهد ومن قبله حال من كتاب موسى، وقيل مبتدأُ وخبر غير متصل بما قبله ويدل للاتصال نصب كتاب فى قراءَة عطفاً على هاءِ يتلوه أَو نصبا باذكر محذوفاً وذكر التوراة دون الإِنجيلِ لاتفاق اليهود والنصارى عليها فتقوم الحجة عليهم بخلاف الإِنجيل فإِن اليهود جحدوه { إِمَاماً } حال من ضمير الاستقرار ومعناه متبوعا فى الدين { وَرَحْمَةً } دينية ودنيوية وأُخروية لأَهل التوراة والإِنجيل قبل نزول القرآن وأَما بعده فالرحمة القرآن وما وافق القرآن، وإِنما هو رحمة من حيث إِن القرآن لم ينسخه إِلا باستقلاله، هما رحمة بعد نزوله أَيضاً لأَنهما يرشدان إِلى الإِيمان به، ولا شك أَن ما لم يحرف ولم يخالف القرآن رحمة إلى يوم القيامة دينا ودنيا { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الإِشارة إلى من كان على بينة والهاءُ للبينة بمعنى القرآن أَو أَحد معانيه السابقة إِلا أَن القرآن أَولى لأَن هاءَ من قبله تناسب القرآن، إِذ لا يترجح هنا بأَن يقال ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم كتاب موسى ومن يؤْمن بالقرآن فموعده الجنة، وقيل الهاءُ لكتاب موسى عليه السلام لقربه ولا يناسبه ما بعد، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ } الجماعات المتحزبة أَى المتجمعة على الكفر من أَهل مكة وغيرهم، وقيل الكفار مطلقاً لتحزبهم على الكفر، وقيل اليهود والنصارى وقيل قريش وقيل كفار بنى أُمية. وبنى آل المغيرة المخزومى. وآل بنى طلحة بن عبيد الله والتعميم إِلى يوم القيامة أَولى { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } لا يتخلف عنها وهو اسم مكان الوعد لكن الوعد لم يعقد فى النار بل أَزلى، فالمعنى أَن النار مكان تعلق الوعد ويجوز أَن يكون مصدراً ميمياً بمعنى الموعود به { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ } شك { مِنْهُ } من القرآن أَو من الموعد والخطاب فى تك للنبى صلى الله عليه وسلم زيادة فى تقوية يقينه أَو لمن يصلح للخطاب، وهكذا يجوز فى كل ما لا يتصور منه صلى الله عليه وسلم أَن ينهى ويبقى على ظاهره تأْكيداً فى جميع القرآن مثل ولا تكونن من المشركين فى وجه { إِنَهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ويجوز عود الهاءَين للشاهد بمعانيه ولكنك تعرف أَن الراجح عودها إِلى بينة بمعنى القرآن{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } لإِهمالهم التدبر.