التفاسير

< >
عرض

وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
-هود

تيسير التفسير

{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } عطف على محذوف مستأْنف أَى يتهيأْ للصنع بعد أَمرنا له به ويصنع وهو لحكاية الحال الماضية كأَنها حاضرة يشاهدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، أَو بمعنى الماضى أَو المضارع بمعنى الماضى، اشتغل بعمل السفينة وكف عن دعاءِ قومه بأَمر الله له عن الكف، يغرس الشجر ويغرس الخشب ويجففه ويهيىءُ القار، وفى رواية أَنه تعالى أَنبع له عين قار، وكل ما تحتاج إِليه السفينة من المسامير وآلات العمل، أَمره الله أَن يعملها من الساج بغرسه ولم يقطعه حتى طال أَربعمائَة ذراع، والذراع إِلى المنكب فى أَربعين سنة، قيل فى التوراة من الصنوبر ويقال بقى مائَة سنة يغرس ويقطع وييبس، ويقال عمل معه فى صنعها سام وحام ويافث بالمنحت وإِجراء على النحت، وأَمره الله عز وجل أَن يطليها بالقار خارجاً وداخلا ويجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين وإِلى السماء ثلاثين بذراع أَهل ذلك الزمان مقدار قامتنا بعدهم إِلى المنكب أَو طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون، وإِلى السماءِ ثلاثون، أَو طولها أَلف ذراع ومائَتا ذراع وعرضها سبعمائَة ذراع، وروى ستمائَة وجعلها ثلاثة بطون وفيها كوى وبابها من عرضها، وفى البطن الأَول الوحوش والسباع والهوام وفى الأَوسط الدواب والأَنعام وفى الأَعلى الناس وما يحتاجون إِليه من طعام وغيره، وقيل الطبقة الأُولى للناس والعليا للطير، وكثر روث الدواب فأَوحى الله عز وجل إِليه أَن اغمز ذنب الفيل فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فخرج الفأْر فأْقبلت تأْكل وأَفسدت الفأَرة وأَقبلت تأْكل الحبال فأْوحى الله عز وجل إِليه أَن اضرب بين عينى الأَسد فخرج من منخره سنور وسنورة وبين الأَسد والسنور شبه وكذا بين الفيل والخنزير فأَقبل السنور والسنورة على الفأْر، وهذا على أَن فى السفينة نوح حبالا، وكأَنها تجرى بالقلوع والريح وعلى أَنها مفتوحة إِلى السماءِ، وقيل تجرى بين ماءِ السماءِ وماءِ الأَرض وأَن الخنزير والفأْر والسنور غير موجودة، والأَكثرون على خلاف ذلك، ولعلها وجدت ولم يحملها لأَمر الله أَو لعدم إِتيانها بأَمره تعالى، وروى أَنه قال عليه السلام يا رب كيف يجتمع الهر والحمام والأَسد والبقرة والعناق والذئْب؟ فقال الله عز وجل: أَنا أَلقيت بينهن العداوة وأَنا أُلقى بينهن الصلح. فقال يا ربى الأَسد والفيل فأَلقى عليهما الحمى فلا يضران، وأَمكنه حملها، ويقال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا يصف السفينة لنا فانطلق بهم إِلى كثيب فأَخذ كفا، فقال أَتدرون من هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أَعلم. قال: هذا كعب بن حام فضرب بعصاه فقال قم بإِذن الله، فإِذا هو حى ينفض التراب عن رأْسه وقد شاب. فقال له: أَهكذا هلكت؟ قال: لا... مت شابا ولكن ظننت الساعة قامت فشبت. فقال: حدثنا عن سفينة نوح. فقال طولها أَلف ومائتا ذراع وعرضها ستمائَة وفيها طبقة للدواب، والوحوش وطبقة للناس وطبقة للطير. ثم قال له: عد بإِذن الله تراباً، فعاد. وأَين طبقة الجن ولعلهم إِن كانوا فيها مسلمين يكونوا حيث شاءُوا وشرع فى حدمتها، وكانت فى سنتين وعن كعب فى ثلاثين سنة وقيل فى أَربعمائَة سنة وقيل فى أَربعين سنة وقيل ستين، وقيل ثلاث سنين، وكانوا يفسدونها فأَمره الله أَن يتخذ لها كلباً، وعملها فى هند أَو الكوفة أَو الشام أَو الجزيرة روايات لا ندرى صحتها ولا دليل فيها ولا حديث، وكذا روايات طولها وعرضها وموضع صنعها ومدة المكث فيه، ولا يقبل العقل كثيراً منها ونؤْمن بنفسها، كانوا يمرون عليه ويقولون صرت نجاراً بعد النبوة كما قال عز وجل { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأَ مِّنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } استهزءُوا به فيقولون متضاحكين أَنجارة بعد نبوة؟ وما هذا البناءُ الذى تبنى لا عاقبة له محمودة إِلا التعب فإِن كان للماءِ كما تزعم أَن الغرق يأْتينا فكيف تبنيه فى موضع بعيد من الماءِ، وفى وقت عزة الماءِ عزة شديدة، كما قيل سخروا منه واستجهلوه لذلك، ولقوله إِذا قالوا ما لهذه الأَلواح، إِنى أَبنى بها بيتاً يمشى على الماءِ، والملأُ الجماعة مطلقاً أَو ترفع ولعل غيرهم كالفرد لا يجترىءُ على ذلك، وكل ظرف لإِضافته إِلى مصدر مؤَول من مؤَول الفعل نائِب عن الزمان متعلق بسخروا { قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا } فى الدنيا { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُم } فيها عند الغرق وفى الآخرة عند الحرق { كَمَا تَسْخَرُونَ } إِذا أَخذكم الغرق وأُحرقتم فيه وفى الآخرة ونجونا دنيا وأُخرى، وهذا مستأْنف جواب كأَنه قيل: فماذا يقول لهم إِذا سخروا منه؟ فقال الله عز وجل: { إِن تسخروا } إِلخ، وهذا أَولى من تعليق كما يقال وجعل سخروا نعت الملأ أَو حالا أَو بدلا من مر إِلخ اشتماليا لأَنه لم يجر ذكر لسخر الملإِ منه إِلا فى قوله وكلما مر عليه إِلخ، وسخرية نوح منهم استجهالهم فى كفرهم أَو فرحه بهلاكهم إِذا هلكوا وإِلا فالأَنبياءُ لا يسخرون، وقد قيل إِطلاق السخرية على الاستجهال إِطلاق للمسبب على السبب، أَو ذلك للمشاكلة، وأَجاز بعض أَن يكون حقيقة وأَنها تجوز فى حق النبى انتقاماً من فاعلها، قلت: لا يصح هذا والأَنبياءُ لا تنتقم، اللهم إِلا إِن أَمره الله عز وجل بها انتقاماً لدينه، ويجوز أَن يراد بسخريائِه الجزاء على سخريائهم، قيل أَو الشمت بهم عند الغرق ولما يئِس من إِيمانهم لم يبال بإِغضابهم وكف عن دعائِهم إِلى الإِيمان.