التفاسير

< >
عرض

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
١٠٠
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
١٠١
-يوسف

تيسير التفسير

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } أَجلسهما معه تعظيماً { عَلَى الْعَرْشِ } السرير، وعدى رفع بعلى لتضمنه معنى الإِجلاس، أَو الحمل والرفع النقل إِلى علو { وَخَرُّوا } عجلوا كالحجر الساقط وهم أَبواه على ما مر وإِخوته لا إِخوته فقط كما قيل { لَهُ } ليوسف { سُجَّداً } بوجوههم على الأَرض كسجود الصلاة مريدين تعظيمه لا عبادته، كان جائِزاً ثم فسخ، أَو المراد بالسجود الانحناءُ بلا وصول للأَرض، وذلكَ كالتحية بالقيام وتقبيل اليد، ونهى فى شرعنا عن القيام إِعظاماً لأَحد، أَما ليقعد فى موضع القائِم فيجوزالقيام للإِمام العدل والوالدين، أَو سجدا بوجوههم فى الأَرض سجود عبادة لله، واللام بمعنى إِلى، أَى سجدوا إِلى جهته شكراً كالصلاة للكعبة تعظيماً له، أَو الضمير لله أَى سجدوا لله، ويدل لهذا أَنه لو كان ليوسف لكان قبل الرفع، لكن أُخر لفظاً للاهتمام بالرفع، ويعارضه" { رأَيتهم لى ساجدين } "[يوسف: 4] فيجاب بأَن اللام بمعنى إِلى أَى ساجدين لله إِلى جهتى، أَو للتعليل، أَى ساجدين لأَجلى لله - جل وعلا - ومعنى لأَجلى لاجتماعهم بى، وفى ذلك تفكيك الضمائر برد ضميرى رفع وأَبويه ليوسف وهاء له الله - عز وجل - وفيه رد الضمير إِلى أَقرب مذكور وهو يوسف فى ضمير رفع وضمير أَبويه، وإِنما سجد أَبوه له، لا هو لأَبيه مع عظيم حق الوالد، وكذا اللام، وقدم بنوته وكبر سنه لبلوغه فى الرغبة فى ولده حتى عمى، وكونه هو الطالب له ويوسف فى غفلة عن تلك الرغبة فيكون كالزجر ليعقوب عليه السلام، وقيل سجدا ليتبعهما أَولاده، وأَما أَن يقال لتصدق الرؤْيا فلا يتم جواباً لأَنه يبقى أَن يقال لما جعل الرؤْيا كذلك سجود أَب لولد فلا تهم، وأَيضاً لا تجب مقابلة الرؤيا من كل وجه، وقيل: الواو للإخوة ومن معهم لا للأَبوين معهم، وفيه منافاة لقوله: " { أَحد عشر كوكباً والشمس والقمر } " [يوسف: 4] مع قوله: هذا تأْويل رؤْياى { وَقَال يَا أَبَتِ هَذَا } أَى هذا السجود { تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ } إِرجاعها إِلى ما هى عبارة عنه وتطبيقها معه { مِنْ قَبْلُ } أَى فعل سجودكم هذا أَو حال صغر السن إِنى رأَيت أَحد عشر كوكباً إِلخ، متعلق برؤْياى، أَو بمحذوف حال من رؤْياى، وذكر الدمامينى قولا بجواز تعليق الظرف بمعرفة محذوفة نعت لمعرفة أَى رؤْياى الكائنة من قبل { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقّاً } صادقة، ولو لم تصدق لكانت باطلا ضد الحق، وذكر حقاً لأَنه مصدر وهو بمعنى اسم الفاعل، أَو يقدر مضاف ذات حق، أًو وصف لمذكر أَى أَمراً حقاً، واختير حقاً لأَنها مقال والمقال يصدق ويكذب { وَقَدْ أَحْسنَ بِى } أَى إِلى " { وأَحسن كما أَحسن الله إليك } "[القصص: 77] أَو ضمن معنى لطف " { وبالوالدين إحسانا } " [الإِسراء: 23] أَى الطف بهما، وذكر بعض أَن الإِحسان يتعدى بالباءِ بلا تأْويل وهى للإلصاق" { الله لطيف بعباده } "[الشورى: 19] أَو بمعنى وقد أَحسن فى، أَى جعل الخير فى، وقدر بعض أَحسن صنعه بى { إِذْ أَخْرَجَنِى مِن السِّجْنِ } لم يقل إِذ أَخرجنى من الجب لأَن الأَصعب الإِلقاءُ فى البئْر، ومقابله الإِدخال فى السجن، وليس الكلام فى الإِلقاءِ والإِدخال بل فى اللبث، ولا شك أَن اللبث فى السجن أَشد من اللبث فى البئر لطول مدته ومعاشرة السفهاءِ فيه والمشركين، بخلاف مدة اللبث فى البئْر فإٍنها قصيرة ومعاشرة فيها جبريل وغيره من الملائِكة، وأَيضاً الإِخراج من السجن سبب للملك المتوصل هو به إلى الدعاءِ إِلى الدين، وإِنقاذ النفوس من الهلاك بالجوع، وأَيضاً هو إِزالة للتهمة فى شأْن امرأَة العزيز وآل به إِلى إِظهار حريته، ولو قال: أَخرجنى من الجب لخجلوا بذكر الجب مع أَنه قد قال: " { لا تثريب عليكم اليوم } "[يوسف: 92] إِلخ { وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ } البادية وهم قرويون لكن كانوا فى مواشيهم فى البادية وجاءَ بهم منها، وقيل: كان يعقوب من أَهل البدو فإِن صح فإِنما تحول إِليها من القرية بعد التبليغ إِذ لم يبعث نبى من البدو، وله مسجد تحت جبل باديته { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ } أَفسد { الشَّيْطَانُ بَيْنِي وبَيْنَ إِخْوَتِى } لم يزل يستر عليهم إِذ عبر بعبارة لا تفصح أَنهم الظالمون بل بعبارة تقبل أَن يكون ظالما أَو هم ظالمين { إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِما يَشَاءُ } مدبر لما يشاءُ من أَحوال خلقه من حيث لا يعلمون، ولا يعجز الله شىءٌ، وهو خالق الأَرباب ومسهل الصعاب { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } بخلقه وأَحوالهم ومصالحهم { الْحَكِيمُ } الفاعل للشىءِ فى وقته ومكانه وكمه وكيفه، ومن حكمته تفريقة بين يوسف ويعقوب أَربعين عاما أَو سبعين أَو ثمانين أَو ثمانية عشر أَو اثنين وعشرين أَو ستا وثلاثين أَو خمساً وثلاثين، وأَقام معه قبل الفرقة سبعة عشر وأَقام عنده أَبوه بعد الاجتماع أَربعة وعشرين أو سبعة عشر، ويقال عمره حين أَلقى فى الجب سبع عشرة سنة، وأَقام فى العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، وأَقام مع أَبيه وإِخوته وأَقاربه بعد الاجتماع ثلاثا وعشرين، وتوفى وهو ابن مائَة وعشرين، ويروى أَنه طاف بيعقوب على خزائِنه فرأَى خزانة القراطيس، فقال: ما أَعقد عندك هذه القراطيس، ولم تكتب إلى على ثمان مراحل، قال: منعنى جبريل، فقال: هلا سأَلته لمه؟ فقال: أَنت أَبسط إِليه منى، فسأَله يعقوب فقال: لقولك إِنى أَخاف أَن يأكله الذئب، ذكرت الذئْب دون الله، ولما احتضر يعقوب أَوصى يوسف أَن يدفنه عند أَبيه إِسحاق فى الأَرض المقدسة، فمضى به فى تابوت من ساج فوافق وصوله موت عيص أَخى يعقوب فدفنا فى قبر واحد كما ولدا فى وقت واحد من بطن واحد وعمرهما مائة وسبعة وأَربعون، ورجع إِلى مصر وعاش بعد ثلاثا وعشرين، وقد تم له الأَمر المر والحلو واستشعر أَنه لا بد من الموت فسأَل الله الرحمن الموت على الإِسلام واللحوق بأَهل النعيم الدائِم كما قال تعالى:
{ رَبِّ } يا رب { قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمَلْكِ } بعض الملك، وهو مُلك مصر، أَو قد آتينى من الملك ملكاً عظيماً، والمقصود بالذات توفنى مسلماً وأَلحقنى بالصالحين، ولكن قدم الثناءَ على الله والشكر على النعم السابقة توسلا بها إِلى اللاحقة { وَعلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } تفسير المرائِى أَو الكتب { فَاطِرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ } صفة لرب أَو نداءَ آخر يا فاطر السماوات والأَرض { أَنْتَ وَلِيَّى } متولى أُمورى وناصرى { فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } تعاملنى فيهما بالنعم وإِزالة النقم { تَوَفَّنِى } أَمِتْنِى { مُسْلِماً } إِذا جاءَ أَجلى، فهذا طلب لأَن يكون موته على الإِسلام لا طلب للموت، قال الحسن: عاش بعد هذا الدعاءِ سنين كثيرة، أَو توفنى الآن، روى أَنه لم يتم الأَسبوع، قال قتادة: لم يسأَل نبى الموت إلا يوسف، وفى رواية عنه: لم يتمن نبى قبله الموت، وكثير من المفسرين على هذا القول من طلب الموت فى الحين لكن تمنيه الموت بعد تخيير الله له لقول عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لم يقبض نبى حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" ، قاله ابن مالك فى شرح المشارق عند قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خير عبده بين الدنيا وبين ما عنده" ، والحديث فى البخارى ومسلم، وعنه صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أَحدكم الموت لضر نزل به" قيل هو نهى تنزيه، وفى الحديث لكن يقول: "اللهم أَحينى ما كانت الحياة خيرا لى" ، وطلب الوفاة على الإِسلام مع علمه أَن كل نبى لا يموت إِلا كذلك ذهولا أَو إِظهارا للعبودية ورغبة وتعليماً للغير وانفساحاً للقلب وانشراحا واطمئنانا { وَأَلْحَقْنِى بالصَّالِحِينَ } إِبراهيم وإسحق ويعقوب وإسماعيل فى درجاتهم لا فى درجة الصلاح فإنه فوقها، وهى أولى درجات المؤمن فتوفاه الله مسلماً وألحقه بهم، وتخاصم أهل مصر فى مدفنه حتى همو بالقتال، فاتفقوا أَن يدفن فى أعلى النيل من جهة الصعيد حتى تجرى عليهم بركته كلهم، وجعلوه فى صندوق من رخام لا من حجر الزند، وحمله موسى إلى الشام حين خرج من مصر وعمره مائَة وعشرون سنة، وولد له من راعيل إفرايم وميشا جد يوشع ورحمة امرأة أيوب، ويروى أنه جعل فى تابوت من رخام ودفن فى أَيمن النيل فأَخصب وأجدب الأيسر، ثم دفن فى الأيسر وهو الشرقية فأَخصب وأَجدب الأيمن فدفنوه فى وسطه بالسلسلة فأخصب الجانبان، ولما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بالخروج من مصر إلى الأرض المقدسة أظلمت الدنيا فأوحى الله إليه أن احمل معك يوسف، ولم يكن علم بقبره عند أحد إلا عند عجوز، فشرطت أن تكون لموسى زوجا فى الجنة، فتوقف موسى فأوحى الله - عز وجل - إليه أَن قل نعم، فأخبرته أنه فى موضع كذا من النيل فى وسطه، وروى أنها بنت من ذرية يعقوب وأنها شرطت عليه أيضاً أَن تثبت كما شبت فدعا فكانت كلما بلغت خمسين صارت بنت ثلاثين، وعاشت ألفا وستمائة، فحمله موسى فى تابوته ودفنه فى الأرض المقدسة.