التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
٣١
قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ
٣٢
قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٣٣
فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٤
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ
٣٥
وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
-يوسف

تيسير التفسير

{ فَلَمَا سَمِعَتْ } سمعت امرأَة العزيز { بِمَكْرِهِنَّ } بمكر النسوة، وهو ذكرهن لها بسوءٍ على وجه الخفاءِ، ولما كان على وجه الخفاءِ سمى مكرا كما أَن الاحتيال فى الخداع مكر، أَو ذكرت لهن القصة على أَن لا يذكرنها لأَحد فأَفشينها خيانة وإِرادة لإِغضابها فيكون مشاكلة، إِذ ذكر ذلك باسم المكر لوقوعه فى صحبة ذكر الحيلة منها فى يوسف والكيد، كقوله تعالى: " { صبغة الله } "[البقرة: 138] أَى دين الله سماه صبغة لأَنه فى مقابلة صبغة النصارى لأَولادهم فى الماءِ الأَصفر، أَو سماه مكرا لأَن المراد به التدرج إِلى رؤْية يوسف بإِراءَتها لهن، وهذا يشبه المكر إِذ لا مكر فيه فى العادة، وكان قد وصف لهن بالجمال الكامل { أَرسِلَتْ إِلَيْهِنَّ } من يدعوهن أَن يجئْن إِليها، ويقال: أَرسلت إِلى أَربعين امرأَة منهن الخمس أَو الأَربع المذكورات، ولا يتم هذا لأَن الضمير إِلى النسوة وهى دون الأَربعين؛ إِلا أَن يكون استخدام بأَن رد الضمير إلى النسوة المذكورة لا على معناهن بل على معنى الجنس، ولا مانع من أَن يراد بنسوة الأَربعون لا خمس أَو أَربع، وهن من أَشراف المدينة بأَن تكون الأَربعون عيرنها، أَو أَصل الغيرة من الخمس وفشا منهن فى البواقى من الأَربعين، والخمس سبب لدعوى من سواهن، واختارت الكثرة لتلين عريكته وليجيب ما يرمنه ولإِسكات الخمس ولإِشاعة عذرها، ولعدد الأَربعين استظهار على الأَعداء اللائِمين قال الله - عزوجل: " { يا أيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } "[الأنفال: 64] وهم يؤمئَذ أَربعون بعمر رضى الله عنه تم به العدد آخرا، وكان إِرسالها إِليهن على صورة الضيافة، ومرادها إِقامة عذرها ولا دليل على غير الخمس أَو الأَربع فهن المراد فقط { وأَعْتَدَتْ } أَحضرت، أُصوله العين والتاءُ والدال والهمزة زائِدة كهمزة أًكرم { لَهُنَّ مُتَّكَئاً } موضع اتكاءٍ وهو فراش واحد يكفى بهن، أًو المراد أَعتدت لكل واحدة متكأَ، والاتكاءُ القعود على اطمئْنان، ولا يشترط فيه الميل جانباً ولو شهر الميل جانباً، وعن ابن عباس: المتكأُ مجلس الطعام؛ لأَنهم يتكئون له كما هو عادة الشرقيين وجاءَ النهى فى الحديث عن الأَكل مع اتكاءٍ، وقيل المتكأُ الطعام، قال العتبى: يقال اتكأْنا عند فلان أَى أَكلنا، ومنه بيت الإِيضاح لجميل:

فظللنا بنعمة واتكأْنا وشربنا الحلال من قلله

أَى وأَكلنا وشربنا { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكِّيناً } بلا طعام أَو لحم أَو فاكهة يقطع بها، وهى الموسى الصغيرة { وَقَالَتِ اخرُجْ علَيْهِنَّ } وقد زينته أَكمل زينة، وقالت أَطعنى اليوم فيما آمرك به واعصنى أَبدا، فتركها لمرادها من التزين والخروج عليهن، فخرج عليهن وبهتن فيه وشغلن عن أَنفسهن فوقعت السكين على يد كل واحدة تقطع بها ولا تشعر، وكانت السكاكين فى غاية من الحدة. وكان هو فى جمال لا تصبر النساءُ عليه، فبكتتهن على تفنيدهن من الغيرة واللوم فعذرنها وذلك قصدها، وقد تريد مع ذلك أَن يسلم عليهن أًو يخدمهن، وقد أَلبسته يومئذ ثياباً بيضاً والجميل أَحسن ما يكون فى البياض،وقد أَباح الله تعالى أَن يخلو بهن وأَن يرضى بتزيينها إِياه، لعل التزين لم يكن إِذا لم يذكره الله تعالى فهن يكبرنه بلا تزيين فإن فضله فى الجمال كفضل القمر ليلة البدر على الكواكب كما رآه صلى الله عليه وسلم ليلة الإِسراء { فَلَمَّا رَأْيْنَهُ } وفى الآية حذف أى أرسلت إِليهن فجئْن وجلسن وقالت اخرج عليهن فخرج فرأَينه ولما رأَينه، والحذف للدلالة على مسارعته بها فيما يحل وذلك كله أَحله الله له، وتسمى هذه الفاءُ أَو الواو فاءُ الفصاحة أَو واو الفصاحة لإِفصاحها عن المحذوف كقوله تعالى: { فانبجست } { أَكبَرْنَهُ } عظمنه لجماله الفائق، وزعم بعض أَن المعنى حضن له، وحذفت اللام أَى أَكبرن لأَجله، أَو الهاءُ للإِكبار، أَى أَكبرن الإكبار، كقمت القيام، والإِكبارُ الحيض بمعنى الدخول فى الكبر، وذلك أَن الحيض يجىءُ بعد الصغر كأَمسى دخل فى المساءَ، وأَعرق دخل العراق، والمراد أَنهن يسلن دماً من شدة اشتهائه كقول أَبى الطيب:

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع فإن لحت حاضت فى الخدور العواتق

وأَبو الطيب لا يحتج بشعره كما لا يحتج بأَبى نواس ولو قاربا من يحتج به، وأَما قول القائل:

يأْتى النساءَ على أَطهارهن ولا يأْتى النساءَ إِذا أَكبرن إِكبارا

فأَظنه ممنوعاَ ولا يصح عن ابن عباس ذلك { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } قطعت كل واحدة منهن يدها قطعاً عظيماً أَو كثيراً أو كر القطع بكثرة القاطعات، ولا يصح ما قيل بظاهر الآية أَنه فصلن أَيديهن بالقطع، فإنه يقال: قطعت اللحم فقطعت يدى، وما قطع إِلا بعضها مع أن المراد الجرح، والتشديد للمبالغة كيفية أو كمية، وهذا مرادها وقيل القطع اتفاق لا قصد إلا لأنها لما حضرن أَطعمتهن، وزعم بعض أَنها خوفته نساء فى أَيديهن خناجر لعله يطيعهن ويعلم أن لها شوكة { وَقُلْنَ حَاشَا للهِ مَا هَذَا بَشراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ } قال صلى الله عليه وسلم: " رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر" رواه ابن جرير والحاكم وابن مردوية عن أَبى سعيد الخدرى، ولا بعد أَن يكون التشبيه مقلوباً أى يشبه البدر، وكان يرى لوجهه لمعان فى الجدر، وقيل: المتكأ طعام يجز بالسكين، قيل هو الأُترج على الحذف والإيصال بمعنى أنه يتكىءُ عليه الآكل بالسكين فهو اسم مفعول فيكن رمن أَن يقطعن الطعام فيقطعن أَيديهن لأَن فى يد موسى وفى أُخرى ذلك الطعام، وذلك لفرط دهشتهن وقيل: أُترجا وموزا وبطيخا، وقيل: الرقاق الملفوف باللحم وغيره وقيل اللحم وكانوا يأْكلونه جزا بالسكاكين، وعنه صلى الله عليه وسلم: " ادن العظم من فيك فإنه أَذهب للقرم.." وفى الآية: إِنهن آمن بالملائكة واعتقدن جمال الملائكة، وأَن هذا الجمال لا يكون فى البشر وإِنما أَردن التشبيه لا الحقيقة؛ لأَنهن عرفنه بشراً والملك لا يكون لحماً وشعرا، أَو خطأَن فى صفة الملك والأَول أَولى فقد آمنَّ بالله لقولهن: حاشا لله، وحاش حرف تنزيه واللام بعدها للبيان كسقيا لك أَو فعل ماض واللام صلة، وأَيضاً وصفن الملائكة بالجمال مع العظمة، وذلك كرم عند الله، وإٍلا والاستثناءُ للعظمة إٍذ لم يذكر هنا سوءٌ، وقال الفارسى: هو فعل وأَن المعنى حاش يوسف المعصية أَى جانبها لأَجل الله، وهو تفسير ضعيف، لأَنه خالف ما شهر من معنى حاش، لأَنها للاستثناءِ أَو للتعجب وكأَنه قيل فماذا؟ فقيل { قَالَتْ } أَى امرأَة العزيز { فَذَلِكُنَّ } الإِشارة إِلى يوسف، وقيل: إِلى الحب وإِشارة البعد مع قرب يوسف للتعظيم، وقيل لأَنه وقت اللوم غير حاضر وعند هذا الكلام حاضر فالإِشارة باعتبار زمان اللوم على أَصلها أَو باعتبار هذا الكلام للتعظيم أَو لبعده عنهن عند هذا الكلام، لئَلا يزدن قطعاً ودهشاً { الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } أى تعجبتن من مراودتيه فاعذرننى فيه؛ لأَنه من رأَيتنه فلم تقدرن على الصبر عنه فصرتن تقطعن أَيدكن وتظنن أَنكن تقطعن الأُترج مثلا حتى سال الدم ولم تشعرن لدهشتكن وشغل قلوبكن به، وقال مجاهد: ما أَحسسن إِلا بالدم، وعن قتادة: فصلن أَيديهن حتى كانت كل واحدة بلا شمال، والأَصح أَنه قطع بلا فصل، وعن وهب: مات منهن جماعة. وروى أَنهن قلن له: أَطع مولاتك، وذلك أَن جماله فاق جمال البشر فإِن كان أَحد فوقه فى الجمال أَو مساوياً له فما هو إِلا ملك، والجمع بين هذا الجمال الفائِق والكف عن المعاصى غاية الكف من خواص الملائكة، وقيل: زينت المحل بالفرش وأَلوان الأَطعمة وزينت يوسف أَحسن الزينة ولم يمل إِليهن ولا إِلى دعواهن له، ولا إِلى أَلوان الطعام، وروى أَنه ورث الجمال من جدته سارة، ويقال: أَنه ورث حسن آدم يوم خلقه الله عز وجل قبل أَن يخرج من الجنة، وقيل: قبل أَن يصيب المعصية كما مر وهو أَولى، ويقال: أَكبرنه لأَنهن رأَين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والهيبة، ولم يعتذر لهن ولم يمل لنكاح أَو طعام وكأَنه ملك، وإِشارة البعد لعلو المرتبة لا المسافة لأَنه قريب منهن، وذا مبتدأٌ والذى خبر أَو ذا خبر لحذوف والذى نعته، أَى هذا الذى رأَيتن هو ذلك العبد الكنعانى الذى لمتننى فيه، أَو مبتدأٌ محذوف الخبر أَى الذى لمتننى فيه هو هذا ما فعلتن من الدهش والتقطيع فى لقاء ساعة به فكيف بى وأَنا معه وقت، والمراد لمتننى فى حبه ومراودتيه { وَلَقَدْ رَاوَدَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } بالغ فى الامتناع مثل اعتصم لما شاهدنه وفعلن أكثر مما فعلت وعرفت أًنهن يعذرنها أَقرت لهن ليعنها على مطاوعته لها ويعذرنها { وَلَئِنْ لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ } أَى ما آمره به من الوقاع والمقام للتعريف فما اسم موصول لا نكرة موصوفة فحذف العائد ولم يجر الموصول بمثل ما جر به ويتحد المتعلق. وقد قيل إِذا دل عليه دليل جاز حذفه مطلقاً، ومن شرط اتحاد الجار والمتعلق قدر النصب على نزع الجار فيكون مدخوله منصوباً على المفعولية مع أَن النصب على نزع الجار ينبغى أَن لا يفسر به القرآن، أَو ما مصدرية، أَى ولئِن لم يفعل أَمرى أَى موجب أَمرى أَو مضمون أَمرى، أَو هاءَ آمره لما أَى ما أَوجبه فهو الرابط ضمن أَمر معنى أُوجب فعدى بنفسه، أَو يقدر لفظ عليه أَى ما أُوجبه عليه { لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ } الأذلين، والفعل صغر بالكسر ونون التوكيد الخفيفة تكتب أَلفا لأَنه يوقف عليها بإِبدالها ألفاً عند الكوفيين، والبصريون يكتبونها نوناً ويقفون بالأَلف كذلك، قيل أكد السجن بالنون المشددة لتحققها، والكون فى الصاغرين بالحقيقة لعدم تحققه عندها، ويبحث بأَن كلا منهما ليس عربياً ويجاب بأَن الله عز وجل ذكر كلامها بحسب التشديد وما يليه فى لغتها، وكذا تقول فى سائر ما ذكر الله عز وجل عن العجم، وقيل لأن الكون من الصاغرين تبع للسجن فاكتفى عن التشديد فيه { قَالَ رَبِّ } يا رب { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَْدعُونَنِى إِلَيْهِ } من الزنا، وكل واحدة دعته إِلى الزنا، والزيادة تصريحاً أَو تحويلا ورسالة على لسان أَو كتابة معها وحالهن قريب من هذا وهو ظاهر الآية، ويجوز أَن يكون الدعاءُ مسندا إِليهن؛ لأَنهن أَمرنه بفعل ما تريد امرأًة العزيز إِذ قلن أَطع مولاتك وخوفنه من مخالفتها، والآمر كالفاعل والواو لام الكلمة والفاعل هو النون الأُولى، قال بعض: لو لم يقل السجن أَحب إِلى لم يبتل بالسجن، قال صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله العافية ولا تسأَلوه البلاءَ فتعجزوا، وإِذا ابتليتم فاصبروا" ورد عنه صلى الله عليه وسلم على من يسأَل الصبر مستشعرا بالمصائب، سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إٍِنى أَسأَلك الصبر، فقال: " "سأَلت الله البلاءَ فاسأَل الله تعالى العافية" رواه الترمذى عن معاذ، وفى الأًثر: لما قال: رب السجن أَحب إَلى إِلخ، أَوحى الله تعالى إِليه لا وحى نبى لأَنه لما يكن نبياً: يا يوسف أَنت جنيت على نفسك، هلا قلت: العافية أَحب إِلى فتعافى، وفى الأَثر: فى عبارات قومنا ما روى عن التابعين ومن يليهم أَو عن الصحابة بلا رفع إِليه صلى الله عليه وسلم، وفى كتب أَصحابنا ما فى الكتب لهم أَو لقومنا، والمعنى ملاقاة السجن أَو صاحبه للإِدخال فيه، أَو مقاساة أَمر السجن أَحب إِلى مما يدعوننى إِليه من الخلوة والزنا، لأَن فيه غضب الله عز وجل، ولا شىءَ فى قلبه من حب السجن ولا حب الزنا، فضلا عن أَن يكون أَحدهما أَحب من الاخر؛ والجواب أَن المراد بالحب الإِيثار بلا تفضيل ولا ثبوت لأَصل الإِيثار فى جانب الزنا، فالمعنى اقتصر على السجن دونه ولم يقل رب السجن والكون مع الصاغرين أَحب إِلخ لأَن الصغار تابع للسجن، ولوفاءِ السجن بالغرض وهو قطع طمعها عن أَن يطاوعها، وفى أَحب بناءُ اسم التفضيل من المبنى للمفعول { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى } بالتثبيت على ترك المعصية { كَيْدَهُنَّ } سعيهن فى هلاكى بأَمرهن إِياى على موافقتها { أَصْبُ } أَمل { إِلَيْهِنَّ } إِلى وقاعهن، أَو إِلى جانبهن أَو إِلى مطاوعتهن أَو إِلى أَنفسهن لذلك بالطبع البشرى { وَأَكُنْ مِّنَ الْجَاهِلِينَ } أَى من السفهاءِ، والذنب سفه، أَو من الذين لا يعلمون الحلال والحرام؛ لأَن من علم ولم يعمل مثل الجاهل فى عدم العمل، التجأَ إِلى الله - عز وجل - على عادة الأَنبياءِ والأَولياءِ فى الاعتراف بالعجز على الحول والقوة إِن لم يعنهم الله، والعبد لا ينصرف عن المعصية إِلا إِن صرفه الله - تعالى - عنها، ومراد يوسف الدعاءُ بأَن يجعله غالبا لهواه { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ } دعاءَه، والدعاءَ فى قوله: والإ تصرف إِلخ لأَنه إِخبار لفظا، إِنشاءُ تضرعا، ودعاءٌ معنى، وقد علم الله صدقه إِذ قال: السجن أَحب إِلى أَى من الزنا، وذلك أَن النكاح محبوب بالطبع، ولكن السجن أَحب إِليه لأَن فيه نجاةً من غضب الله وفوزا بالجنة والثواب، أو أَحب معنى محبوب بلا تفضيل، أَو بمعنى عن، وأَحب خارج عن التفضيل { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } بالتثبيت على ترك العصيان المحبوب بالطبع { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } العليم بالأَصوات والدعاءِ { الْعَلِيمُ } بالأَفعال والنيات وذات الصدور والأَحوال، ومكثت زمانا بعد ذلك تراوده طمعا لأَمر النساءِ له بمطاوعتها، ولما أَيست منه مع انتشار مراودتها له طلبت من زوجها إِما أَن تخرج للناس فتعتذر إِليهن ببراءَتها بما شهر، وتعاقب من يذكر ذلك، وإِما أَن يسجنه؛ تقوية فى أَنه هو الذى راودها، فظهر أَن يسجنه كما قال الله - عز وجل:
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ } فاعل بدا ضمير السجن المدلول عليه بقوله: ليسجننه أَى بدا لهم سجنه بفتح السين كقولك قال تعالى أَى قال الله بدليل تعالى، وكقولك قال صلى الله عليه وسلم، أَى قال النبى صلى الله عليه وسلم بدليل صلى الله إلخ، أَو ضمير عائد إِلى البداءِ وهو ضعيف، أَو إِلى الرأْى لتبادره فى المقام، وهاءُ لهم للعزيز وزوجه وأَهلهما، وثم لتراخى زمان بعد تقطيع النسوة وقبل بدو السجن، لأَن زوجها قد رأَى صدقة وكذبها وتراخى، واحتالت له حتى طاوعها وزمامه فى يدها ظلما له عمدا، وإِعراضا عما رأَى من الايات { مِنْ بَعْدِ مَا رأَوُا الآيَاتِ } دلائِل صدقه وكذبها، كقد القميص من دبر، وشهادة الصبى فى المهد بأَنه برىء، وإِعراضه عن النسوة وقد أَظهرن أنهن دعونه إِلى أَنفسهن فأًعرض عنهن، كقطع النساء أَيديهن؛ فإِن فتنهن به فى وقت واحد يدل على أَنها فتنت تحقيقا لكثرة أَوقاتها معه فتكون قد بهتته كأَثرها فى جسده عند ابن عباس، وكحاله معه فى الصدق فى جميع أَحواله ومشاهدة عبادته لله - عز وجل - ويجوز أَن تكون آيات عند الله - عز جل - ولم يذكرها، وقيل ذلك واقع فى القرآن { لَيَسْجُنُنَّهُ } أَى قائلين والله ليسجننه { حَتَّى حِينٍ } مدة ما طويلة أَو قصيرة بحسب ما يظهر للناس أَنه أَجرم أَو يقر لهم بأَنه الذى راودها، وذلك مراد لها وللعزيز، وزادت؛ قيل: الطمع فى أَن ينقاد لها خوفا من السجن لحضوره ولو اختاره، قيل: وطمعا فى موافقة أَمر النساءِ بالمطاوعة، ويبحث بعد رده عن السجن بعد أَمر العزيز به، ويجاب بإِمكان أَن يطاوعها فى رده عن السجن إِن أَحبت رده، والحين فى اللغة زمان قصير أَو طويل ولا تعيين فى الآية، وكان بعض يحمله على ستة أَشهر لقوله تعالى:
" { تؤتى أُكلها كل حين } "[إبراهيم: 25] ولا يلزم ذلك، لأَن الآية جاءَت على بعض ما يطلق عليه الحين، وقيل: خمس سنين، وقيل: سبع، وقال مقاتل: اثنا عشر { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } أَى فسجنوه فدخل معه السجن فتيان شرابى الملك الأَكبر ريان وخبازه، فالشرابى وهو ساقيه سرْهَم، والخباز برْهم رشاهما قوم من أَهل مصر على أَن يسماه، فأَلقى الخباز السم فى الطعام، وقبل الرشوة والساقى ندم ولم يقبلها ولم يلق السم فى الشراب، وأَخبر الملك، واتهمهما، فأَحضر الخباز الطعام فقال له الساقى: لا تأْكله أَيها الملك إِنه مسموم، وأَحضر الساقى الشراب فقال الخباز: لا تشرب إِنه مسموم، فقال له الملك اشرب فشرب، وقال للخباز: كل من الطعام فأَبى، فأُطعمت منه دابة فماتت فحبسهما الملك حيث حبس العزيز يوسف، والغلام الطار الشارب والكهل ضد، وقيل: أَو من حين يولد إِلى أَن يشيب - أُركب على حمار وضرب عليه الطبل فى أَسواق مصر أَن يوسف العبرانى راود سيدته فهذا جزاءُه، وكلما ذكر ابن عباس رضى الله عنه هذا بكى، ومع للمفارقة فى زمان الفعل، فوقت دخول الثلاثة السجن واحد، وهذا أَصل معنى مع حقيقة حتى يقوم الدليل على الانفصال مثل: " { وأَسلمت مع سليمان } " [النمل: 44] " { فلما بلغ معه السعى } " [الصافات: 102] ويجوز إِبقاؤهما على الأًصل؛ لأَن الإِسلام والسعى يتجددان فيعلق معه بالسعى { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنَّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْراً } وهو الساقى، والخمر العنب أَو ماؤه، وفسره أُبى وابن مسعود بالعنب، سماه خمرا؛ لأَنه يصير خمرا، يسمى الشىءُ باسم ما يؤول إِليه إِذا تعين أَن يؤول إِليه، أَو ترجح أَو كثر أَوله إِليه أَو اعتيد، وقيل: العنب من أًول الأَمر خمر بلغة أَزد عمان وغسان، قال المعتمر: قلت لأعرابى حمل عنبا: ما تحمل؟ قال: خمرا، ويحتمل أَنه رأَى أَنه يخرج نفس الخمر من العنب لا مجرد مائه فهو حقيقة لا مجاز كما هو حقيقة فى لغة أَزد عمان وغسان فى نفس العنب، وقرأَ أُبى وعبد الله: أَعصر عنبا، وذكر البخارى عن عبد الله أَنه قال: والله لقد أَخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا قلت لعله صلى الله عليه وسلم قرأَ بذلك تفسيرا، وهذا تأَويل قريب جدا لشهرة أَعصر خمرا عنه صلى الله عليه وسلم باتفاق، قال: رأَيت فى النوم أَنى فى بستان فيه شجرة عنب عليها ثلاثة عناقيد وفى يدى كأس الملك عصرتها فيه وسقيته وشرب فسمى العصير خمرا، ولو كان لا يؤُول إِلى الخمر لأَنه عصير نوم لاحقيق، ولا يشترط فى مجاز الأَول أَن يتحقق أَن يؤول بل يكفى إِلا ما كان مع ما مر من ترجيح وغيره بل ولوتيقن أَنه لا يؤول لكن من عادته مثلا أَن يؤول يجوز التسمية باسم المآل فلا تهم { وَقَالَ الآخَرُ } صاحب الطعام واسمه مجلث، وقيل: الساقى راشان والخباز مرطش، وقيل: الساقى سبرهم والخباز شرهم { إِنِّى أَرَنِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً } فى ثلاث سلل بعض فوق بعض مع أَلوان الطعام فيها { تَأْكُلُ الطَّيْرُ } سباع الطير { مِنْهُ } من الخبز الذى فى السلة العليا، وفاعل أَرى والياءُ فى الموضعين لواحد، وجاز ذلك مع اتصال الضمير لجواز ذلك فى باب ظن وعلم ورأَى الحلمية وفقد وعدم، ولا يجوز ذلك فى غيرهن مطلقا وعندى يجوز فى غيرهن إن جر الثانى بحرف جر، وأَنه لا حاجة إِلى تقدير مضاف، وأَنه مقيس لكثرته نحو: " { واضمم إٍليك } " [القصص: 32] و "تأْوين إِليك" و " { فصرهن إِليك } "[البقرة: 260] و " { يدنين عليهن } "[الأحزاب: 59] و " { أَمسك عليك زوجك } " [الأحزاب: 37] و " { هزى إِليك } "[مريم: 25] { نَبِّئْنَا } أخبرنا { بِتَأْوِيِلِهِ } تأْويل ما ذكر، وهو ما ذكراه جميعا أَو قال الأًول أَيضا نبئْنا بتأْويله محذوف { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فى تفسير الرؤيا فأَحسن إِلينا بتأْويل ما ذكرنا، وكان يعبر لأَهل السجن مرائِيهم بوجه صادق، وفى تسلية المحزونين فى السجن وفى قوله: اصبروا يثبكم الله عز وجل، وفى عيادة مرضاهم والتصدق بما وجد عليه والتوسع لمن ضاق موضعه، وصوم اليوم وقيام الليل، ويجمع للمحتاج ما يحتاج إِليه، قيل: رأَيا ذلك فى النوم تحقيقا، وقيل: كذبا، ولم يريا شيئاً فى النوم، فهما تحلما وما حلما ولبثا فى السجن ثلاثة أَيام عدد العناقيد والسلل.