التفاسير

< >
عرض

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
-النحل

تيسير التفسير

{ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً } مثلا مفعول ثان، وقدم التشويق إلى ما به الضرب، وقرية مفعول أول أى صيَّر الله قرية مثلا، والمراد نفس القرية أو أهلها على حذف مضاف، أو أهلها تسمية لهم بها لحلولهم بها، أو وضعت لهم اسمًا كما وضعت للمحل، والمثل كلام شبه مضر به بمورده الكلام على القرية، ورد فيها وما أشبهها مضرب يمثل له بها، والقرية مكة، وقيل مطلق قرية، لا مخصوصة، وذكر ابن عباس أنها مكة، ورجحه أبو حيان لمناسبة، ولقد جاءهم رسول منهم أصابها القحط بعد أن كانت راغدة العيش بالطائف وجدة، وما قاربها من القرى، وقوافلهم من اليمن والشام، وأصابتها الغارات ممن حولها قبل الهجرة، أو تخوفوها ولو لم تكن بعد الاطمئنان من الخوف، كما قال الله عز وجل:
{ كَانَتْ آمِنَةً } من الخوف { مُطْمَئِنَّةً } لا يحتاج إِلى الانتقال عنها { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } واسعًا { مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } بحر وبر { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ } بدين الله ونبيه صلى الله عليه وسلم، أو أنعمه البدنية والمالية، والاحترام والمفرد نعمة، كأنه بلا تاء كدرع وأدرع، أو نعم بضم فإسكان كبؤس وأبؤس، أو نعماء كبأساء وأبؤس واختار بعض أنه اسم جمع، وكان من أوزان القلة، والمراد الكثرة تلويحًا بأن العقاب المذكور مستحق بالقليل، فكيف بالكثير، والمراد بالقرية أهلها على حذف مضاف فيها، وفى ضمائرها بعدها، أو اسم محل لحال، أو وضع اللفظ لهم كما وضع لها على الاشتراك.
{ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } أحاط عليهم بالرقة والصفرة ظاهرين عليهم ظهور اللباس على البدن، وأصل الإذاقة الإطعام الأول، ليختبر، ثم استعمل فى مطلق الإطعام، ثم فى مطلق الإصابة والابتلاء أو فى هذا بعد الإِطعام الأول إطلاقًا للمقيد على المطلق، أو استعار الإذاقة للإبلاغ إِلى إِدراك أثر الضرر، فاللباس لنحو الزرقة والصفرة استعارة ثانية، وشبه الجوع والخوف بالمطعوم البشع، ورمز إِليه بالإذاقة، فهذه ثالثة مكنية، فإنه لا يخفى أن الإذاقة للمطعوم والمشروب لا للجوع والخوف، وإذا اعتبرنا شيوع الإذاقة بمعنى الإصابة حتى كأنها حقيقة لها، كانت تجريدًا للاستعارة، ولو قيل فكساها كان ترشيحًا، وإن شئت ففى اللباس استعارتان: مصرحة إذ شبه ما غشى الإنسان عند الجوع به لجامع الاشتمال، ومكنية إِذ شبه ما غشيه بالطعم المر بجامع الكراهة والقربة، الإذاقة وهى تخييل.
{ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } فيما مضى أو استمروا عليه بأشياء يصنعونها، أو بالأشياء التى يصنعونها من المحرمات، أو بكونهم يصنعون الصنع الفاسد، والواو لأهل القرية المعبر عنهم بلفظ القرية، أو باسم مقدر مضاف إليها، أو للقرينة على التجوز، روعى لفظها فيما مر، المعنى الآن وكذا فى الهاءات بعد، وعبر بالصنع تلويحًا بأَن الشر فيهم راسخ كرسوخ الصنعة لصاحبها، والمشهور أن ذلك بعد الهجرة.
والجمهور أنها نزلت فى المدينة وصحح، وجعلت فى سورة مكية، وعلى أنها فى مكة مع أنه يقع ذلك بعد الهجرة، فإخبار بما سيقع، كانت مكة آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ولما أصروا على الكفر حتى ألجئوه صلى الله عليه وسلم إِلى الهجرة، أصابهم القحط سبع سنين: بقطع المطر، وقطع صلى الله عليه وسلم من يأتيهم من العرب بالطعام، حتى أكلوا العظام المحرقة، والجيف والكلاب، وما جاف من الميتة والوبر المخلوط بالدم، يرون شبه الدخان من الجوع، وكان يبعث إِليهم السرايا يقطعون الطريق ويخوفونهم، وأرسلوا إِليه أبا سفيان وجماعة من رؤسائهم، دأبك أن تأمر بالمعروف، وصلة الرحم، والعفو.
والآن عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، وقد هلك قومك فادع الله لهم، فدعا وأمر بحمل الطعام إليهم وقيل مطلق قرية صفتها ذلك لا خصوص مكة، مثل بها، فإن المثل قول يسمى مضربًا يشبه قولا آخر يسمى مورداً فى شئ ليبين أحدهما بالآخر، هو المورد.