التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٩٠
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٩١
-النحل

تيسير التفسير

{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } بترك الميل عن الحق، والميل الجَوْر، يقول: مال بمعنى جار، ودين الله وسط لا إِفراط ولا تفريط، إما اعتقاداً كالتوحيد بين نفى الله وإثباته مع الشركة، وكإثبات صفات الله، وإنما هو بين نفيها وإثباتها مع اعتقاد أنها غيره يحتاج إليها حاشاه عن الحاجة، وقد عاب على الأشعرية ابن العربى إذ قال لا فرق بين قول من يقول: إنها عيره، وقول من قال إن الله فقير إلا تزيين اللفظ، وكالقول بأَن فعل المخلوق كسب منه، وخلق من الله المتوسط بين دعوى أنه مجبر علىعمله، لا كسب له فيه، وبين دعوى أنه خالق لا قدرة لله فيه.
وإما عملا كأداء الواجب المتوسط بين البطالة والانقطاع بالكلية إلى العمل وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"لا رهبانية فى الإسلام" وفى الهند قوم يتقربون إلى الله بترك اللذات كلها، وإليه وإلى ملكهم بقتل أنفسهم بالنار أو بالإِلقاء من عال.
وإما خلقه كالجود بين البخل والتبذير، والشجاعة مع التحرز بين التهور والجبن، ودخل فى العدد الحكم بين الخصمين بالحق، بين الأولاد والأزواج.
{ وَالإِحْسَانِ } يفعل الطاعات والمبالغة فى تجويد الفرض، وفى الحديث:
"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" وقصر بعضهم الآية على الحديث، وقيل: العدل التوحيد أو الإنصاف والإحسان أداء للفرائض، وذلك إحسان الإنسان إلى نفسه وإلى غيره من الخلق، ويجوز أن يكون الإحسان الإتيان بالأعمال حسنة صحية مجوَّدة.
قال عيسى بن مريم: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إِليك، وليس أن تحسن إِلى من أحسن إليك، كأنه يشير إِلى أن الإحسان إِلى من أحسن إليك كالفرض، وقيل: العدل أن ينصف من نفسه لغيره، وينتصف لنفسه من غيره، والإحسان أن يتصف ولا ينتصف، وقيل: العدل فى الفعل والإحسان فى القول وهو قول بعيد عن العدل والإنصاف، وعندى العدل أداء الواجب مطلقاً، والإحسان الزيادة عليه.
{ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى } من جهة الأب أو الأم ما يحتاج إليه وجوبا إن اضطر إليه، وندبًا إن لم يضطر إليه، فهو داخل فيما مر من فرض أو نفل، وخصه إيذانا بشرفه إذ فيه صدقة وصلة، وفى الحديث:
"أعجل الطاعة ثواب صلة الرحم"
{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ } الزنى وهو أقبح أحوال الإنسان، وقيل: ما ازداد قبحه من زنى أو غيره.
{ وَالْمُنْكَرِ } قيل ما ينكر على فاعله من إنهاض القوة الغضبية، وكل فحشاء منكر، وكل منكر فحشاء، وامتاز بالإنهاض المذكور، والواضح أن المنكر ما حرمه الشرع، وقيل: ما وعد عليه النار، والفحشاء: ما اشتد تحريمه فهو أعم منها، وقيل: المنكر الشرك وهو مباين للبغى، فتحصل فى الآية عطف الخاص على العام، وعطف العام على الخاص، وعطف مباين.
{ وَالْبَغْىِ } تطاول الإنسان بما ليس على غيره فى بدنه أو ماله أو عرضه، خصه بالذكر لمزيد عظمه.
{ يَعِظُكُمْ } بالأمر والنهى المذكورين، والجملة مستأنفة لتعم، ولو جعلت حالا من فاعل بأمر أو من فاعل بنهى لكان قيدًا له فقط، ولا وجه لكونه حالا من فاعلها لاختلاف عاملها، ولا حاجة إِلى تقدير مثله لأحدهما.
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تتعظون، قال ابن الأثير فى المستدرك: هذه أجمع آية فى القرآن للخير والشر، قال الحسن البصرى: أمرت بكل خير، ونهت عن كل شر، قال ابن عباس رضى الله عنهما: إنه قال عثمان بن مظعون رضى الله عنه: ما أسلمت أولا إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتقرر الإيمان فى قلبى، فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدثنى إذ رأيت بصره شخص الى السماء، ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك، فسألته فقال:
"بينا أحدثك إذْ جبريل نزل عن يميني فقال: إن الله يأمر بالعدل" إلخ فوقع الإيمان فى قلبى، وقال: إن فى هذه الآية لحلاوة، وإن فى القرآن لطلاوة، وإن أعلاه لثمر، وأسفله لغدق بغين معجمة ودال مهملة أى كثير الماء أسفله، وما هو بكلام البشر، بل هو كلام خالق القوى والقدر.
وكان بنو أمية يلعنون عليًّا فى المنابر، ولم تولى عمر بن عبد العزيز قطع ذلك فى كل بلد، وجعل مكانه:{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية، فكان له على ذلك مدح عظيم، وقبول وهو حق، لأن اعتياد الشتم والإكثار منه ليس عبادة، ولا سيما ما كان انتقامًا وجهالة وبغيًا على المتقدم بالخلافة، وإنما أتمنى قطع ذلك ولو كان تورية، إذ كان مؤذن المالكية يقول: شتما لأصحابنا بتعريض وتورية بهم ليلة كل جمعة، من أبغض معاوية فأمه هاوية، مع أن عليا ومعاوية متباغضان، ويقول: من أبغض عليًّا فخصمه النبى، وكل من معاوية وعثمان أبغضا عليًّا وأبغضهما على، ويقول: من أبغض عثمان فأمه النيران، وعلىّ يبغضه.
بلغ أكثم بن صيفى أمره صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رجلين فقالا له: مَن أنت وما جئت به، قال صلى الله عليه وسلم:
"أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله" ، وتلا: إن الله يأمر بالعدل إلخ قال: ردِّد علينا، فردده حتى حفظناه، فأخبرا به أكثم قال: إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن مذامها، فكونا فى هذا الأمر رأسا لا أذناباً، رواه أبو نعيم، عن عبد الملك بن عمير، وفعل الأمر، ولام الأمر، واسم فعل الأمر والمصدر النائب عنه الأصل فيهن الوجوب.
وأما لفظ أمر، ويأمر ومر والأمر، موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، ولو لم يكن فى القرآن إِلا هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شئ وهدى ورحمة للعالمين، ولعل الله نبه على هذا بإيرادها عقب قوله:
" { ونزلنا عليك الكتاب } " [النحل: 89] وبعد الإجمال فى الأمر والنهى فصّل بعضا فى قوله تبارك وتعالى:
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ } بالعهد الذى عاهدتم الله.
{ إِذَا عَاهَدْتُمْ } شامل للطاعة والمباح فى الوعد والنذر بأى لفظ وشمل بيعة الإِمام اعتباراً بما بعد، فإن الآية مكية، وإنما البيعة بالمدينة، ولا يلزم من وجوب الوفاء بالشئ إذا كان أن يكون جائز الوقوع فى الحال، ألا ترى إلى قوله: إذا عاهدتم، ودخل فيه بيعة الأنصار رضى الله عنهم الأولى والثانية والثالثة، ودخل فيه كل ما قبلوه عنه صلى الله عليه وسلم وحلف الجاهلية.
قال صلى الله عليه وسلم:
"كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" وكانوا يتحالفون على التناصر، فيبقى فى الإسلام على الوجه الشرعى، ونسخ الإرث به، والآية نزلت في بيعته وهى على العموم، وخصوص السبب لا ينقض عموم اللفظ.
{ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ليس التوكيد قيدا فلا تنقض، ولو لم تؤكد ولكن نزلت الآية وهم يؤكدونها، فكانت على ما هم عليه، وتوكيدها يكون بتكرير أسماء الله أو صفاته مثل: والله العزيز، وقدرة الله وعزته وأفعاله عندى، أو أراد بتوكيدها أنها بالله أو صفته أو فعله، وأنها فى طاعة أو مباح، وأنها بقصد لا يغلط أو نسيان أو توهم، أو لغو كقولهم: لا والله، وبلى والله، ولا شئ على من حلف على ما توهم فلا عليه وعلى معصية، ويجب النقض فيها، ويستحب فيما إذا رأى ما هو أفضل.
قال صلى الله عليه وسلم:
"من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فالآية عامة خصصتها السنة، وتجب المحافظة على الوفاء باليمين وإن نقضها وكفر فقد أساء، لأن ذلك كالتهاون، قال الله عز وجل: " { واحفظوا أيمانكم } " [المائدة: 89] وعموم آية السورة حجة أيضاً، والتوكيد والتأكيد والتأكيد بالواو بالهمز لغتان، وقيل: الهمز بدل منها.
{ وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } صامتًا بالوفاء، أو شاهدًا ورقيبا، وذلك استعارة أو مجاز مرسل لعلاقة اللزوم، وكذا الجعل، ويجوز إبقاء كفيلا على ظاهره تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته، وأنه يسلمهم لها كما سلم الكفيل من كفله. والجملة حال من واو تنقضوا، وقد يراد بالعهد ما ذكر قبله، والأيمان وخصهما بالذكر بعد.
{ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } من إيفاء ونقض وسائر أعمالكم، أو من جعلكم الله عليكم كفيلا، وذلك تهديد وتخصيص علىالوفاء وعدم النقض.