التفاسير

< >
عرض

وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً
٤
فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
٥
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً
٦
-الإسراء

تيسير التفسير

{ وَقَضَيْنَا } ضمن معنى أوحينا، فعدى بإلى، وقيل إلى بمعنى على، أى قضينا على بنى إسرائيل، وضمن معنى القسم فأجيب باللام، ونون التوكيد فى قوله: لتفسدن.
{ إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ فِى الْكِتَابِ } التوراة أو الجنس كما قرأ ابن أبى العالية وابن جبير فى الكتب بضم الكاف والتاء.
{ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأَرْضِ } أرض بلاد بيت المقدس أو مطلق الأرض لشيوع فسادهم فيها، ويجوز تقدير: وقضينا إلى بنى إسرائيل بالإفساد قائلين: والله لتفسدن فى الأرض، أى ليتوقعن الفساد، ولا مفعول لتفسد أو يقدر لتفسدن التوراة، أوا لتكليف ذكر الله جل وعلا أنه آتاهم التوراة، وأَنهم سيخالفونها بعد الإيتاء.
{ مَرَّتَيْنِ } إفسادتين، فهو مفعول مطلق، أو زمانين فهو ظرف زمان الأولى: قتل شعيا ومخالفة التوراة، والثانية قتل زكريا ويحيى، وقصد قتل عيسى، وقيل أولاهما: قتل زكريا، وحبس أُمراء، والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى، وقيل: موت زكريا بعد قتل يحيى، وقيل بالعكس.
وسبب قتل يحيى أن ملكًا أراد أن يتزوج من لا تجوز له فنهاه، وقد وعد تلك المرأة قضاء حاجة فى كل عبد فقالت لها أمها: سليه دم يحيى فألحت عليه حتى ذبحه فى طست، فوقعت قطرة فى الأرض، فلم تزل تغلى حتى قتل عليها سبعون ألفًا، وقيل راودته امرأة الملك، وكان جميلا، فأبى فقالت لها أمها: سليه دمه، وكان كل ملك من بنى إسرائيل يبعث معه نبى يسدده، ومنهم صديعة بالعين المهملة أو بالقاف، أو صداميا، بعث الله معه شيعا للبشر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، واستقاموا ثم عظمتى الأحداث، فجاءهم سنجاريب ذلك فى ستمائة ألف راية، ونزل حول بيت المقدس، وصديعة مريض فى فرسخ، فأوحى إليه شعيا أن ئت صديعة ومره أن يوصى ويستخلف من شاء من أهل بيته، فقال صديعة: رضيت.
فصلى ودعا وتضرع، فأوحى الله إلى شعياء أنى زدت له خمس عشرة سنة، أَى هى من القضاء الأولى، لكن بين له أن سببها تضرعه، وإنى أُهلك عدوه، فخر صديعة ساجداً وأصبح العدو موتى فصرخ رجل على باب المدينة بموتهم، فخرج الملك فلم يجد فى الموتى سنجاريب فبحثوا فوجدوه فى غار مع خمسة نفر من كنانة أَحدهم بخت نصر فجئ بهم فى القيود فخر صديعة من طلوع الشمس إِلى العصر ساجداً فأمر أن يطاف بهم حول بيت المقدس، وإيليا سبعين يوماً فى القيود، فأوحى الله عز وجل إلى شعياء أن يرسل صديعة سنجاريب ومن معه، لينذروا قومهم، ويكرمهم وبلغهم مأمنهم، فلبث فى بابل سبع سنين، ومات واستخلف بخت نصر ابنه، ومات صديعة وتنازع بنو إ ِسرائيل الملك وتقاتلوا، ووعظهم شعياء موعظة عظيمة ألهمه الله إِياها.
ولما فرغ قصدوه بالقتل فهرب، فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأخذ الشيطان هدبة من ثوبه فأراهم إياها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه، وقيل مات زكرياء على فراشه فيقتصر على ذكر يحيى فى المرة الأولى: واستخلف الله منهم ناشبة بن أحوص، وبعث لهم أرمياء بن حلفياء نبيا من سبط هارون، ويقول إنه الخضر، وأحدثوا واستحلوا المحارم، فأوحى الله تعالى إلى أرمياء بضم الهمزة وشد الياء، وقيل بضمها وكسرها، وتخفيف الياء أن يذكرهم نعمه، ويعرفهم بأَحداثهم ألهمه الله عز وجل خطبة بليغة، وفى آخرها يقول الله عز وجل: إنى حلفت بعزتى لأفيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جباراً ذا هيبة، أنزع الرحمة من قلبه، يتبعه من العساكر مثل سواد الليل المظلم، وهو بخت نصر فقتلهم وقتل علماءهم، وأحرق التوراة، وخرَّب بيت المقدس، وألقى فيه الجيف، وسبى سبعين ألفا إلى بابل، فمكثوا فيها سبعين سنة، ثم سأل عن بيت المقدس وقتلاه فقيل بيت الله.
وعصوا الله فسلطه الله عليهم وهؤلاء السبعون ألفًا من ذرية الأنبياء، فقال أخبرونى كيف أصعد إلى السماء: وأقتل من فيها، وأملكها وإِلا قتلتكم فقالوا: لا يقدر أحد على ذلك، وتضرعوا إلى الله عز وجل، فأدخل الله بعوضة فى منخره حتى عضت بأم دماغه، فما يسكن حتى يطأ على أم دماغه، ومات وشقوه فوجدوها عاضة فيه، وذلك انتقام، وإظهار لقدرة الله عز وجل.
ورجعوا إلى الشام وبنوا وكثروا، ولا نسخة من التوراة لهم، فبكى عزير فقال له رجل وهو ملك: ما يبكيك؟ قال فقد التوراة، وبها قوم دين الله عز وجل، قال: أتحب أن ترجع إليك، فارجع إلى موضعك، وتطهر وسم، ففعل فأتاه بإناء ماء فشربه، فمثلت التوراة فى صدره، ووجدوا نسخة فى موضع فقرأ وقابلوه بها، ولم يغير حرفًا، ثم بعد ذلك أحدثوا، وقتلوا زكرياء، وقيل قتلوه ويحيى، وقصدوا قتل عيسى والثلاثة من آل داود.
{ وَلَتَعْلُنَّ } تتكبرون على أهلها بالظلم لهم فى أبدانهم وأموالهم، وأعراضهم، وعن طاعة الله، واتباع الحق.
{ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ } حان وقرب.
{ وَعْدُ أُولاَهُمَا } وعد عقاب المرة الأولى، أو الوعيد أى التوعد به، أو وعيد بمعنى الوقت لوح بالعقاب فى ذكر الإفساد والعلو، وذكره كذكر المعهود المذكور، وفى ذلك استعمال الوعد فى الشر كما يستعمل فى الخير وهو شائع فى القرآن، ودل على إرادة العقاب قوله تعالى:
{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } قوة وشدة فى الحرب، وذلك تأكيد كظل ظليل، أى شدة شديدة، أو جزء من الشدة شدة، وذلك تجريد بديعى، وهو مبالغة، وهم بخت نصر عامل هراسف على بابل وجنوده، وقيل العمالقة أو جالوت الخرزى البربرى، أو سنجاريب من أهل نينوى، أرسل الله إليهم ملكًا يأمرهم من الله بقتل بنى إسرائيل لعتوهم أكثر من عُتُوّ المشركين، أو وسوس الشيطان إِليهم بأن يقاتلوا بنى إسرائيل، وذلك خلق من الله فسماه بعثًا بعثهم الله إِليهم حين كذبوا أرمياء، وجرحوه وحبسوه، واختاره بعضهم.
{ فَجَاسُوا } استقضوا فى التفتيش عمن يجدونه ويقتلونه، أو يأسرونه، ويأخذون ماله.
{ خِلاَلَ الدِّيَار } فرداً وجمع خلل كجبل وجبال ظرف، أى منفرج الديار ديار بلاد بيت المقدس، قتلوا الكبار، وسبوا الصغار، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد، و ذلك كله خلق من الله وتسليط للكافرين على المؤمنين، كما يسلط الله الحية والعقرب والأسد على من شاء، وذلك انتقام من بنى إسرائيل لمعاصيهم على يد ظالم، ومنعت المعتزلة تسليط الكافر على المؤمن، وأولوا البعث بعدم المنع فعندهم أن ذلك خلق من بخت نصر وجنوده، والله يرى. من ذلك فلزمهم أن يكون غير الله خالقًا، و أن يكون فى الوجود ما لم يقرره الله.
{ وَكَانَ } أى الجوس خلال الديار، أو كان وعد العقاب، أو كان وعد أُولاهما.
{ وَعْدًا مَفْعُولاً } لا يتخلف، والجمهور على أن هؤلاء العباد، خربوا بيت المقدس، وقتلوا بنى إسرائيل قتلا ذريعًا، وأسروهم وأحرقوا التوراة.
وعن ابن عباس ومجاهد: جاسوا خلال الديار، وانصرفوا بلا قتل، وكان بيت المقدس مبنيًّا لسليمان بالذهب والفضة والياقوت والزمرد، وسائر الجواهر، تأتى بذلك الجن من معادنه، وبنوه له وأخذه بخت نصَّر المجوسى إلى بابل مع سائر الغنائم على سبعين ألفًا ومائة ألف عجلة ولملكه سبعمائة سنة، وسبى الأطفال والنساء وغيرهم، واستخدمهم مائة سنة، فسار ملك من المجوس يوحى الله إليه أن يستنقذ من بقى منهم، ويستنقذ الذهب والفضة ونحوهما، ويرجعهم إلى بيت المقدس كأول مرة.
ثم رجعوا إلى المعاصى، فغزاهم قيصر ملك الروم فى البر والبحر، فسباهم وقتلهم، وأخذ الأموال والنساء، وحمل تلك الأموال على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة، وأودعه كنيسة الذهب.
قال القرطبى: وهو فيها حتى يأخذه المهدى، ويرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة، يرمى بها على بابل حتى ينقله إلى بيت المقدس كما قال:
{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ } إذ تبتم وأحسنتم، والمراد نرد لكم لكن عبَّر بالماضى لتحقق الوقوع، لأن الرد لم يقع وقت الإخبار، بل بعد مائة سنة، واللام للتعدية والنفع، ولا داعى إلى كونها للتعليل كما هو ظاهر، وكما يناسب مقابلة لفظ عليهم بعد.
{ الْكَرَّةَ } الدولة وأصله الرجوع، سميت لأنها تجئ بعد العدم { عَلَيْهِمْ } على الذين بعثوا عليكم من المجوس، بأن ألقى الله الشفقة عليهم فى قلب بهمن بن أسفنديار لما ورث الملك من جده كشاسف بن لهراسف، فردهم إلى الشام وملْك عليهم الله عز وجل دانيال، وقتل بواسطة أمر بهمن، بذلك ألقى الله الشفقة فى قلبه، فرد بنى إسرائيل إلى الشام فاستولوا على من كان فى الشام من أتباع بخت نصر، وقيل: تزوج امرأة إسرائيلية، فطلبت أن يردهم إلى الشام، فردهم فكانت فيهم أنبياء، وكانوا أحسن مما كانوا قبل، وقيل: سلط داود على جالوت، ورد بأنه لم يكن مسجد الشام قبل داود، فضلا عن أن يدخلوه أول مرة كما قال الله سبحانه وابتدأ بناءه بعد قتل جالوت، ولم يتمه وأتمه سليمان، وأجيب بأن حقيقة المسجد الأرض.
والحق أن المسجد قبل داود، ومعنى بخت بالعبرانية ابن أو عطية، ونصر بالشد صنم، وجد صبى عند صنم ولم يعرف له أب فنسب إليه، وعليهم متعلق برددنا أو بالكرة، ولا حاجة إلى جعله حالا من الكرة.
{ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ } رددناها عليكم وأموال منا { وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } مما كنتم عليه، أو من عدوكم، والنفير النافر، وهو من ينفر إِلى العدو للقتل، أو جمع نفر بسكون الفاء كعبد وعبيد، أو اسم جمع له، أو مصدر على وزن فعيل، لأنه للسير أى خروجًا وذهابًا إلى القتال أذا دعوا إليه.