التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٥
-الإسراء

تيسير التفسير

{ وَيَسْأَلُونَكَ } أى اليهود، عند ابن مسعود رضى الله عنه، والدليل معرفته صلى الله عليه وسلم بالسائلين، ولو لم يتقدم ذكر اليهود قريبًا أو قريش بتعليم اليهود عند ابن عباس رضى الله عنهما، إذ قالوا لقريش تعنتًا: اسألوا عن الروح، ويناسب الأول قوله عز وجل: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } لأن المتصفين بالعلم اليهود لا قريش، قال ابن مسعود رضى الله عنه: بينما أنا أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود فقال بعض لبعض: اسألوه عن الروح، وقال بعض: لا لئلا يجئ بما تكرهونه، وقال بعض: اسألوه فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت، فقلت: يوحى إِليه فقمت فلما انجلى عنه قال: { ويسألونك عن الروح قل الروح } الآية، فقال بعضهم: قد قلنا لكم لا تسألوه. وهذا فى المدينة.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: اجتمع قريش أى فى مكة، وقالوا: إن محمداً أنشأ فينا بالأمانة والصدق، وما اتهمناه بكذب قط، فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة، واسألوهم عنه، فإنهم أهل كتاب؛ فبعثوا جماعة، منهم النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، وهما أكبر الجماعة، فاقتصر بعضهم عليهما، أو هما المراد بالجماعة، فقال اليهود: اسألوه عن فتية فُقِدُوا فى الزمان الأول، ما كان أمرهم؟ ولهم حديث عجيب؟ وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ما خبره؟ وعن الروح فإن أجاب عن ذلك كله أو لم يجب عن شئ، فليس نبيًّا، وإن أجاب عن اثنين فقط فهو نبى.
فسألوه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم بأصحاب الكهف وذى القرنين بعد ما رجعوا إليه فى مكة، وسألوه فذلك سؤال وقع فى مكة، ووقع بعد الهجرة، والذى تلبث الوحى فيه هو سؤالهم بمكة، كما روى أنهم سالوه فقال: أخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فلبث عنه الوحى اثنى عشر يومًا، وقيل: خمسة عشر، وقيل: أربعين يومًا فقالوا: وعدنا أن يخبرنا غداً فلم يخبرنا، وحزن صلى الله عليه وسلم، وشق عليه ذلك، ثم نزل قوله تعالى:
" { ولا تقولن لشئ إِنى فاعل ذلك غداً إِلاَّ أن يشاء الله } " [الكهف: 23 - 24] ونزل فى الفتية: " { أم حسبت أن أصحاب الكهف } " [الكهف: 9] إلخ وفى ذى القرنين قوله تعالى: " { ويسأَلونك عن ذى القرنين } " [الكهف: 83] إلخ.
ونزل: "ويسألونك" { عَنِ الرُّوحِ } ولم يخبره بالروح، وكانت مبهمة فى التوراة فنقول: وقع السؤال فى مكة وفى المدينة، وابن عباس، رواه له الصحابة بحسب ما وقع فى مكة، ومعنى سؤالهم عن الروح أنهم سألوه عن حقيقتها أو محلها من الحيوان، أو أ قديمة أم حارثة، أمجردة أم حالّة فى متحيز، أتبقى بعد الموت أم تفنى، والظاهر السؤال عن حقيقتها، وزعم بعض أن الروح المسئول عنها ملك هو صف، والملائكة كلهم صف، وبعض أنه جنس من الملائكة على صورة ابن آدم، لا ينزل ملَك إِلا ومعه واحد منهم.
وعن مجاهد: لا تراهم الملائكة كما لا ترى الملائكة. وعن سلمان: الجن تسعة أجزاء، والإنس جزء عاشر والملائكة تسعة، والجن جزء. والروح تسعة، والملائكة جزء والكروبيون تسعة، والروح جزء وقيل الروح المسئول عنه جبريل كما قال الله عز وجل:
" { نزل به الروح الأمين } " [الشعراء: 193] وقيل: القرآن، كما قال عز وجل: " { وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا } " [الشورى: 52] { قُلِ الرُّوحُ مِنْ } تبعيضية أو بيانية { أَمْرِ رَبِّى } أجبْهم بعارض من عوارضها، إذ لم يعرفه الله بحقيقتها، وذاتيتها، إذ لم يجعل الله علمًا بذلك لأحد، كما أجاب موسى عليه السلام من قال: " { وما رب العالمين } " [الشعراء: 23] ولم يقل: قل هى من أمر ربى، إظهاراً لكمال الاعتبار فى شأنها، وفى قوله: { من أمر ربى } أنها حادثة مخلوقة لله عز وجل، يقول: كن، وهو أمره ومعناه توجه الإرادة إلى وجودها، أو خلق الله له لفظ كن حيث شاء إلا أول المخلوقات، فيتقدمه مخلوق وهو لفظ كن على هذا بلا محل، ولا ناطق به، والصحيح فى أمره وقول كن توجه الإرادة على الاستعارة التمثيلية وأمر ربى قوله: كن ضد النهى.
ويجوز أن يكون أمر ربى بمعنى شأنه، فيكون بمعنى أمر من أمور الله، والصحيح أن الأرواح حادثة يخلقها الله إذا دخل الجنين فى الشهر الخامس، وقيل: الأرواح مخلوقة قبل الأجسام كلها، كما قيل أول المخلوقات روح سيدنا محمد ونوره، ومن قال الأرواح قديمة أشرك، والقول بأنها خلقت قبل الأجساد خطأ عند بعض المحققين، فيستثنى روحه صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
"ينفخ فى الجنين الروح" لا ينص على عدم سبقها، لجواز أن الملك يأتى بها من خارج فينفخ بها، وقيل: نكر الله الروح فى التوراة، وأبهمه عنهم وهو جبريل، وقيل خلق أعظم من الملائكة، وقيل الوحى، وقد علم ذلك كله، لكن لم يعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك هو المراد فى التوراة، أو علم فلم يخبرهم ليطابق قولهم: إنه يجيب عن اثنين ويسكت عن واحد، أو يسألوه صلى الله عليه وسلم كيف جبريل فى نفسه، وكيف قيامه فى تبلغ الوحى فقال: { قل الروح من أمر ربى } أى من عالم الأمر أو وجوده بأمره جل وعلا، أو تكوينه أو ينزل، أو يبلغ بأمره كما قال: " { وما نتنزل إلاَّ بأمر ربك } "[مريم: 64] وقد سمى روحًا فى قوله عز وجل: " { نزل به الروح الأمين على قلبك } " [الشعراء: 193 - 194] وقوله: " { فأرسلنا إليها روحنا } " [مريم: 17] ومن أن الروح ملك أعظم الملائكة، وهو أى جبريل المراد فى قوله تعالى: " { يوم يقوم الروح والملائكة صفًا } " [النبأ: 38] وأنه المراد فى السؤال.
قال علىّ: له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله بها، ويخلق الله بكل تسبيحة ملكاً، ولا خلق أعظم منه غير العرش والسماوات والأرض، وهو فى صورة الملائكة ووجه الإنسان، وهو عن يمين العرش يوم القيامة، يشفع لأهل التوحيد لولا ستر من نور بينه وبين الملائكة لاحترقوا من نوره.
وعن ابن عباس: الروح جند الله، لهم أيد وأرجل، وقيل: عيسى ويتجه تفسير الروح بالقرآن يتقدمه فى قوله عز وجل:
" { وننزل من القرآن } "[الإسراء: 82] إلخ وتأخره فى قوله: " { ولئن شئنا لنذهبن بالذى } " [الإسراء: 86] إلى قوله " { ظهيراً } "[الإسراء: 88] سألوه عنه فقال: إنه ليس من كلام الخلق، بل من أمر ربى وقد سماه روحا فى قوله عز وجل: " { أوحينا إليك روحا } "[الشورى: 52] وقوله: " { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح } "[النحل: 2] وكل من القرآن وجبريل للقلب كالروح للجسد.
ومن جملة ما أمر بقوله تعالى: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } لتستفيدوه بسمعكم وأبصاركم، وسؤالكم وحواسكم، ومنها الحواس الباطنة المدركة للوجدانيات، ومن فقد حسًّا فقد علما، ولا يليق بكم معرفة الروح، والخطاب للناس مطلقا، وقيل: لليهود، قالوا: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير يدل للأول أنه لما قال لهم: { وما أوتيتم } إلخ قالوا: أنحن مختصون بهذا الخطاب فقال: بل نحن وأنتم، فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول:
" { ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً } "[البقرة: 269] وساعة تقول هذا، فنزل: " { ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام } "[لقمان: 27] إلخ، فإن معلومات الله لا تتناهى.