التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
٢٨
وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
٢٩
-الكهف

تيسير التفسير

{ وَاصْبِرْ } احسب { نَفْسَكَ } ولو أبت { مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } يعبدونه مطلقاً، أو يسألونه حوائجهم، أو يصلون الخمس، أو يقرءون القرآن أو يذكرون الحلال والحرام، روايات عن السلف وأضعفها الأخير، والصحيح الأول.
{ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ } عبارة عن إكثار الدعاء لا خصوص الوقتين، أو الغداة من الفجر إلى الزوال تسمية للكل باسم الجزء، والعشى بمعنى المساء، أو الغداة صلاة الفجر يصلونها، والعشى وقت الظهر والعصر يصلونهما، ويستثنى بالسنة الصلاة عند الغروب، والتوسط والطلوع، فيعبدون فيهن بغير الصلاة أو يسألون حوائجهم.
{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } يريدون الله أو الوجه بمعنى الرضا والطاعة، لأن من رضيت عنه تقبل إِليه بوجهك، وقيل: بمعنى التوجه، أى التوجه إليه، وعلى كل لا رياء، وسلف قومنا يجعلونه وجهًا حقيقيًا بلا كيف، فضلوا ولم تغنهم البلكفة، وبعض سلفهم توقف.
{ وَلاَ تَعْدُ } عدا يتعدى بنفسه، وعداه بعض لتضمن نبت عينه عنه تنبو بمعنى احتقره ولو جالسه، فاختار لفظ تعد ليفيد أيضا معنى المباعدة، مع الاحتقار، ويجوز كونه من المتعدى فيقدر المفعول به أى لا تصرف عيناك عنهم النظر.
{ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } نهى الله عز وجل عينى النبى صلى الله عليه وسلم عن مجاوزتهم، والإعراض عنهم بتركهم بلا بدل أو ببدل، والمراد نهيه هو عن أن يحتقر فقراء المسلمين، كعمار وسلمان، وصهيب، وابن مسعود، وبلال، لفقرهم ورثة ثيابهم ونحو ذلك من أمور الدنيا التى لا تقدح فى الدين.
كما روى أن أمية بن خلف ونحو من كبار قريش، وعيينة والأقرع من المؤلفة قالوا: اطرد هؤلاء الفقراء لضعفهم واتساخ ثيابهم نجالسك، وننقل عنك، فنزلت الآية، لكن أمية فى مكة والمؤلفة فى المدينة، والصحيح أن السورة مكية، وقيل: إلا هذه الآية، وقيل: السورة مدنية، وقيل: مكية، إلا أولها إلى جُرُزًا.
ولما نزلت الآية قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم فوجدهم فى مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال:
"الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أمرنى أن أصبر نفسى مع رجال من أمتى، معكم المحيا والممات" وهذا دليل المدينة.
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أى زينتها الموجودة عند كفار رؤساء قومك وما وجد فى المسلمين منها فجالسه لله عز وجل لا لهما، والجملة حال من الكاف المضاف إليها، لأن المضاف جزء من المضاف إليه هنا، ولأنه يقوم مقامه، كما تقول: لا تعد أى أنت وهذه الحال جاءت على مقتضى طبع النفس بمعنى أنه لو عَدَتهم عيناك لكان ذلك لحالهم الرثة، وذلك مقتضى المقام.
والقصد أن لا تعدو عنهم مطلقًا، تريد زينة الحياة الدنيا، أو لم تردها إِلا أن قومه قالوا له: اطرد الفقراء عنك، ومن لا شأن له نؤمن بك ونجالسك نحن زيادة على شرطهم الأول، وهو إن أخبرهم بقصة أهل الكهف، وذى القرنين، آمنوا فنزل:
{ { واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك } [الكهف: 27] إِلى { أعتدنا للظالمين ناراً } فقام صلى الله عليه وسلم يلتمسهم فوجدهم فى مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال: "الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أمرنى أن أصبر نفسى مع رجال من أمتى معكم المحيا ومعكم الممات" فالتلاوة للقرآن المستلزمة للعمل بما تضمنه.
{ وَلاَ تطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } جعلنا قلبه غافلاً كأمية بن خلف من جملة من دعاك إِلى طرد الفقراء المسلمين، ومَن لا يعبأ به من المسلمين، والآية صرحت بغباوتهم لانهماكهم فى المحسوسات الظاهرة، وإعراضهم عما به الشرف الدائم دنيا وأخرى، وهو زينة الدين، والآية نصت على أن الله خلق المعصية، كما خلق الطاعة، والجهل، كما خلق العلم، وإذا قلنا أغفلنا قلبه بالخذلان، فالمراد نفى الإجبار لا الهروب عن خلق الله المعصية، ومنعت المعتزلة ذلك فقالوا: المعنى وجدنا قلبه غافلاً، أو نسبنا الغفلة إلى قلبه فراراً منهم عن نسبة القبيح إلى الله سبحانه، كأجبنه بمعنى وجده جباناً، وأبخله بمعنى وجده بخيلا وأقحمه بمعنى وجده مقتحمًا أو نسبه لذلك، كقول معدى كرب لبنى سليم: قاتلناكم فما أجبنَّاكم، وسألناكم فما أبخلناكم، وهجوناكم فما أقحمناكم، وفيه نسبة المصادفة إِلى الله تعالى وهى ممنوعة للزوم تقدم الجهل عنها.
فالمعتزلة بل بعضهم يقولون: لا يعلم الله فعلا حتى يكون، وهو فى معنى الإشراك أو أهملناه ولم نوقفه، وبه قال الرمانى من المعتزلة، كقولهم: أغفل إبله إذا تركها بلا وسم، عكس الذين كتب فى قلوبهم الإيمان قال الكميت، وهو من الشيعة:

وطائفة قد كفرونى لجدكم وطائفة قالوا مسئ ومذنب

أى نسبونى إلى الكفر وذلك منهم خطأ، فإن الله هو القادر متأثر القدر لا قبح له فى خلقه وهو خالقهم، وإِنما القبيح هو قولهم: إِنه يقع فى ملك الله ما لم يرده، وهو خلق العدد ما هو قبيح إذ نسبوا الخلق فى ذلك إلى الفاعل، وليس فى مذهبنا سوى أن الله نهى عن القبيح، وقد خلقه، فعصى عصيانا قارنه خذلان.
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } استدل به المعتزلة على مذهبهم فى تفسير أَغفلنا إِذ لو كان المعنى كما قلنا صيرنا قلبه غافلا لقال: فاتبع هواه بالفاء التفريعية والتسبب على تصييرها غافلة، فلم يسند الاتباع إلى مشيئته تعالى، بل إلى شهواتهم، ويجاب بأَن القدرة المؤثرة ليست إلا لله كما قال:
" { قل كلٌّ من عند الله } " [النساء: 78] وللعبد قدرة كاسبة يصح إِسناد أفعاله الاختيارية إليه بسببها وفعل العبد يكون بكسبه، وبفعل الله والإسناد إلى الكاسب حقيقة، وإلى الخالق تعالى مجاز فيما هو كسب، وأيضا ليس النص على التفريع، وإنما هو بحسب القصد.
فإن المراد هنا الإخبار بوقوع شيئين: الإغفال واتباعهما لهوى، كما تقول: جاء زيد وأكرمته إذا أردت الإخبار بأنه جاء، وأنك أكرمته هكذا أو إن أردت التصريح بما هو سبب قلت: فأكرمته بالفاء.
{ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } تقدمًا على الحق بحيث يكون خلفهم منبوذاً، والمادة منبئة عن العجلة، كما يقال: فرط منه قول قبيح، أى سبق، وفرس فرط: يسبق الخيل، قال الله عز وجل:
" { إننا نخاف أن يفرط علينا } " [طه: 45] وفرطت القوم سبقتهم إلى الماء، وفراط الغنم متقدماتها إلى الوادى والماء، وفى الحديث: "أنا فرطكم على الحوض" وأفرط جاوز الحد، وفرطا فى الآية بمعنى فارطًا أو مسرفًا أو مضيعًا، أو مفرطا فيه ولا يقال: لم لا يطردهم جلبًا للكثير والكبراء ليقوى الإسلام، فإنا نقول: فى ذلك إهانة للإسلام، وللسابق إليه، وكسر لقلبه، وتنفير عنه، وتقليل لمن يدخل فيه، وتسبب فى ردة من أسلم، وإساءة ظن بتفضيل أهل الدنيا.
وأكثر الناس ليسوا بأصحاب مال ومرتبة، وإنما الإسلام المرتبة العظيمة، فمن سبق إليها فهو الفائز، ولإسلام غير محتاج إلى شرف الناس، بل مَن أعرض عنه كب، ففى ذلك بيان من الله لهؤلاء الأشراف أن نحو سلمان وعمار هو الشريف، وهكذا قل ولا تحتاج أن تقول: إن الله عالم بأن هؤلاء لا يؤمنون إيماناً ضعيفاً، وبدل لما قلت قوله تعالى:
{ وَقُلِ } لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } مبتدأ وخبر أى الحق آت أو ثابت من ربكم، لكن إذا قدرنا آت فالخبر آت لا من ربكم، وما أتى من غير الله مما لم يأذن به الله، ليس بحق، بل مجرد هوى، أو الحق خبر لمحذوف، و من ربكم حال مؤكدة أو خبر ثان، أى ذلك الحق من ربكم، أو هذا الحق، أو الذى آتيتكم به، والمراد ما مر من أول السورة، أو كل ما أوحى إليه.
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ } بهذا الحق المذكور، أو بالنبى، أو بالقرآن، وهذا من مقول القول أو من الله تعالى.
{ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } لا أُبالى بإيمانكم وكفركم، فإنى مثاب على تبليغى ولو لم تعملوا به، ولا يضرنى كفركم، ولا أطرد الفقراء آمنتم أو كفرتم، أو استعارة للخذلان بتشبيه ما هو بحال المأمور بالكفر، والجامع عدم المبالاة، والآية لا تقتضى استقلال العبد بفعله، لأن مشيئته الإيمان أو الكفر لا تكون إلا بمشيئة الله عز وجل، ولا ينفذها إلا بإنفاذه تعالى، فإنه خالق لمشيئة العبد، وإنفاده لها، ومشيئة العبد غير مؤثرة، وأيضا قال الله عز وجل:
" { وما تشاءون إلاَّ أن يشاء الله } "[الإنسان: 30] والشرط لا يلزم أن يكون علة تامة للجزاء، بل يكفى أن يكون سببًا فى الجملة كما فى المطول.
ولو كانت مشيئة العبد مؤثرة لاحتاجت إِلى تقدم مشيئة لها عليها، فيتسلسل بخلاف مشيئة الله لمشيئة العبد، فإنها تقطع التسلسل، والآيات دالة على اختصاص الخلق بالله، وأيضا كيف يكون العبد خالقًا لفعله مع جهله بأَجزاء فعله، وغفلته وحاله وكيفيته، وأيضا كيف يكون العبد خالقًا لفعله مع جهله بأجزاء فعله، وغفلته وحاله وكيفيته، وأيضا قد يفعل بلا عمد كيف يخلق بلا عمد، ومذهبنا ومذهب الأشعرية واحد.
وزعم أبو منصور الماتريدى أن مشيئة العبد ليست بمشيئة الله، بل مستقلة ومجموع الأمرين تهديد، ويكفى لو اقتصر على الثانى لكفى تهديداً لا على الأول.
{ إِنَّا أَعْتَدْنَا } هيَّأْنَا { للظَّالِمِينَ } أنفسهم بالإشراك، ويلتحق بهم الفسَّاق { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ } يُحيط بهم { سُرَادِقُهَا } فسطاطها، والإضافة بمعنى من التبعيضية، فهم على بعضها، وتحت بعض هو سرادقها، ولو كانت كلها سرادق، والإضافة للبيان لزم أن يكونوا فى أرض غير النار، والنار سرادق عليها، نعم يجوز أن تكون السرادق من غير النار، وهم فى النار، وأضافها إلى النار لأنها فى النار، وهى سرابيل من قطران غير النار، بل خلقه من الله، أو لباسهم وطعامهم وشرابهم المحرمة، التيى يتمتعون بها، صيِّرت لهم سرادق.
ويجوز أن تكون الإضافة من إضافة المشبه إلى المشبه به. وقيل: السرادق جدار دائر بهم عرضه مسيرة أربعين عامًا، وفى الحديث:
"سرادق النار أربعة جدر كل جدار مسيرة أربعين سنة" والمراد أن هذه الجدر محيطة بهم كلهم، وقيل: سرادقها دخانها الشبيه بالسرادق وعلى ما مر من الاستعارة، وبيان الإضافة والتشبيه الإضافى.
وقيل: هذا الدخان هو المراد فى قوله تعالى:
" { إلى ظل ذى ثلاث شعب } " [المرسلات: 30] وأنه قبل النار. وعن ابن عباس: حائط من نار، وعن الكلبى عنق يخرج، ويحيط بهم فى المحشر، وزعم بعض أن البحر المحيط يكون عليهم ناراً، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم قال: البحر من جهنم، وتلا الآية.
{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } من العطش { يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْلِ } ما أذيب من حديد أو نحاس أو ذهب أو فضة أو رصاص ونحو ذلك، حتى صار فى السيلان كالماء، وقيل: كدردى الزيت، ويقال: قيح ودم أسود، ويقال: ضرب من القطران بالغ فى الحرارة، وذلك تهكم وتحقير حيث أجيبوا بضد مطلوبهم، طلبوا ماء فأوتوا بعذاب إذا قرب من وجوههم سقطت لحومهم، وإذا شربوه قهراً أخرجت أمعاؤهم من أدبارهم، وسقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم، ثم يعادون كما قال:
{ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ } ذلك الماء جملة بئس مستأنفة، ولا يبعد أن تكون مقولاً لنعت محذوف أى مقولاً فيه، بئس الشراب وهذا النعت كالنعت قبله وهو يشوى منعوته ماء، وكذا كالمهل نعت لماء أى ثابت كالمهل، أو النعت الكاف على أنها اسم مختلف لما بعد، قيل: فيستتر فيه الضمير، لأنه بمعنى مشابه، وأجيز أن يكون يشوى حالا من المستتر فى الكاف، أو من ضمير الاستقرار، على أن الكاف حرف أو حال من المهل، لأن المهل ولو سيق للتشابيه، لكن نعته بيشوى، تكميل لوصف الماء، فيكون كإفراد الشئ مع دليله.
{ وَسَاءَتْ } بئست النار { مُرْتَفَقًا } متكأً وهو اسم مكان بمعنى موضع ارتفاق، أى اتكاء على مرفق اليد، أو هو مصدر ميمى، أى ساء ارتفاقها، أى الارتفاق فيها. وعن ابن عباس: منزلا، وهذا مقابل لقوله:
" { وحسنتْ مرتفقا } "[الكهف: 31] وقوله: " { متكئين فيها } " [الكهف: 31] إلخ جئ على التهكم، فإنه لا اتكاء لأهل النار فيها، كما تهكم بقوله: { يغاثوا بماء كالمهل } كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع. وأما قوله:

غضبْ تميم أن يقتل عامر يوم النثار فأعقبوا بالصيام

أى بالداهية، والنثار ماء لتميم، فلا يلزم أن يكون تهكما لجواز أن يكون معناه: اصبروا للصيام، ولا تجزعوا، وذلك على صيغة الأمر لما كان مبنيا للمفعول، فتهكم.