التفاسير

< >
عرض

فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
٦٥
قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً
٦٦
-الكهف

تيسير التفسير

{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا } عند الصخرة، وقيل: فى مدخل الحوت { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } ينبغى لمن قرأ هذه الآية أن يقول: اللهم آتنا رحمة من عندك، وعلمنا من لدنك علما، والعبد المذكور هو الخضر - بفتح الخاء وكسر الضاد، أو إسكانها، أو بكسرها أو بكسرها وإسكان الضاد - أبو العباس بليا بفتح فإسكان، وقصر أو مد، وقيل: أبليا، وقيل: اسمه عامر، ويضعف القول أنه أحمد بأنه لم يسم أحد بأحمد قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن الضحاك: أن الخضر ابن آدم. وعن سعيد بن المسيب أن أمه رومية وأباه فارسى، وقيل: إنه ابن فرعون موسى، وهو ضعيف. وعن كعب الأحبار أنه ابن عاميل، وقيل: ابن العيص، وقيل: ابن كليان بفتح الكاف وإسكان اللام.
وعن وهب بن مبنه أنه ابن ملكان بذلك الوزن بن فالغ بن عامر ابن شالخ بن أربخشد بن سام بن نوح، ولا أعرف صحة شئ من هذه الأقوال، وصحح النووى فيما يظهر من عبارته أنه بَلْيَا بن ملكا، ونسب للجمهور، وشهر أنه موسى، وزعم بعض أنه إِلياس، وبعض أنه اليسع وبعض أنه ملَك.
ولقب بالخضر لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هى تهتز من خلفه خضراء. وعن مجاهد: لأنه إذا صلى اخضر ما حوله. وعن عكرمة: لأنه إذا جلس فى مكان اخضر ما حوله، ولأنه كانت ثيابه خُضْراً. وعن السدى: لأنه إذا قام بمكان نبت العشب تحت رجليه حتى يغطى قدميه، وقيل: لإشراقه وحسنه والصحيح الأول للحديث.
وصح من حديث البخارى وغيره أنهما رجعا إلى الصخرة، وإذا رجل مسجى بثوب، أى مغطى جعل طرفه تحت رأسه، وطرفه تحت قدميه.
وفى مسلم: أتيا جزيرة، فوجد الخضر قائما يصلى على طنفسة خضراء، على كبد البحر، أى خالص الماء وذكر الثعالبى أنهما انتهيا إليه وهو قائم على طنفسة خضراء على وجه الماء مسجى بثوب أخضر.
وقيل: إن سبيل الحوت عاد حجراً، فلما جاءا إليه مشيا عليه حتى وصلا إلى جزيرة فيها الخضر، وصح أنه سلّم عليه موسى حين انتهيا إليه، فقال الخضر: وأَنِّى بأرضك السلام، فقال: أَنا موسى، فقال: موسى بنى إسرائيل؟ قال: نعم.
وروى أَنه لما سلّم عليه وهو مسجى عرف أنه موسى، فجلس وقال: وعليك السلام يا نبى بنى إسرائيل، فقال موسى: وما أدراك بى؟ ومَن أخبرك؟ فقال: الذى أعلمك بى، أما يكفيك أن التوراة بيدك، وأن الوحى يأتيك، فقال: إن ربى أرسلنى إليك لأتبعك وأتعلم من عندك.
ونكر عبداً ورحمة وعلما للتعظيم، والرحمة الوحى والنبوة عند الجمهور، على أنه نبى، وقيل: رسول، وقيل: ولىّ، وقيل: الرزق الواسع، وقيل: العزلة عن الناس، وعدم الحاجة إِليهم، قيل طول الحياة مع الصحة، والعلم علم الغيب بتكليم الملّك، أو بإشارته المعبَّر عنها بالنفث كقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب" والإلهام من هذا، وملك الإلهام للأنبياء وغيرهم، أو بتعليم الله بلا واسطة، بل يلقى فى قلبه.
وعلم الخضر بإيحاء الله على لسان الملَك، أو بإشارة الملَك من الله دون نطق، والأول هو الوحى الظاهر، والثانى يسمى نفثا أو بالإلهام، وقيل: الإلهام من الثانى، وله ملك يسمى ملك الإلهام، ولا يختص بالأنبياء، وكل ذلك غير علم الحروف.
ويجوز تعاطى غير الوحى مما لا يخالف الشرع. وقد ندم ابن عباس عن تركه علم التنجيم الذى لا يخالف الشرع، وقال: إن الناس عطلونى بالمنع عنه، وكأنه قيل: ما جرى بينهما؟ فقال الله عز وجل:
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ } إلخ استفهم مع أن الله عز وجل أرسله إليه للتعلم، بل طلب التعلم منه، فأجابه ولم يقل له اجبره، فجرى على سنن مريد التعلم من الطلب والخضوع، أى هل تبيح لى أن أتبعك.
{ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْت رُشْدًا } قال الأصوليون: تأتى على للشرط كما هنا، قيل: وفى قوله تعالى:
" { يبايعنك على أن لا يشركن } " [الممتحنة: 12] وفى قوله: " { على أن تأجرنى } "[القصص: 27] وهو حقيقة عند الفقهاء، وتردد السبكى فى وقوعه فى كلام العرب. والصحيح وقوعه.
قيل: ولم يذكره النحاة، وهو فى آية السورة قلت: هو داخل فى الاستعلاء المجازى، وليس معنى حقيقيا لها، وزعم السرخسى أنه حقيقة، وليس كذلك، كأنه قيل: هل أتبعك بانياً على أن تعلمنى مما علمت رشداً، أى علماً ذا رشد. وهو إصابة الخير، وهو مفعول ثان، وثانى علمت محذوف أى علمته.
ويجوز أن يكون الثانى محذوفًا منعوتًا بقوله مما علمت، أى بعضًا مما علمت فرشداً بدل من البعض أو مفعول مطلق لمحذوف مستأنف أى أرشد رشداً أو مفعول لأجله لأتبعك أى لأكون رشيداً أو التعلم بمعنى الإرشاد، ولا إشكال في تعلم موسى مع كثرة علمه بالتوراة وغيرها من الخضر الذى هو دونه، لأن أعلم الناس مَن يجمع علم غيره إليه، ولاختلاف العِلْمين.
روى البخارى ومسلم والترمذى والنسائى، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
"أن الخضر قال: يا موسى إنى على علم من الله تعالى علَّمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من الله تعالى علَّمكه الله سبحانه لا أعلمه" . ومعنى قوله تعالى: لى عبد أعلم منك، أن الخضر أعلم من موسى بعلم الحقيقة، ولموسى علم بعض الحقيقة، كما أن للخضر ما يكتفى به من علم الشريعة.
قال السيوطى: ما جمعت الشريعة والحقيقة إلا لنبينا صلى الله عليه السلام، ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما على معنى ما جمعت على الوجه الأكمل إلا له صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى تبليغه الشريعة، وأما تبليغه الحقيقة فقد يكون منه لبعض المستعدين، تأمل.
ويظهر لى وجه آخر وهو أن المراد يكون الخضر أعلم، أن علم الحقيقة أدخل فى حقيقة العلم من غيره، فيتم الكلام، ولو لم يكن لموسى شئ من علم الحقيقة ألبتة.