التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً
٨٢
-الكهف

تيسير التفسير

{ وَأَمَّا الْجِدَارُ } الذى أقمت { فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ } أصرم وصريم { يَتِيمَيْنِ } مات أبوهما وهما غير بالغين، ويتم الآدمى بموت الأب، وابن أمة أمه، والحيوان بموتها، والطير بموتهما، وفى الحديث: "لا يُتم بعد بلوغ" ولا دليل على أنهما بالغان، وأنهما سميا يتيمين باعتبار ما مضى.
{ فِى الْمَدِينَةِ } هى القرية المذكورة فيما مرّ، ذكرت هنا بلفظ المدينة إِظهارًا للاعتداد بها لصلاح أبوهما وليتمهما.
{ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا } تحت أساسه الذى بنى عليه، وذلك أحفظ له، وحقيقة للتحتية، وأما جانبه مما يليه فدون ذلك فى الحفظ، ومجاز وهو مال مدفون من ذهب وفضة، كما فى البخارى فى التاريخ، والترمذى والحاكم، وصححه من حديث أبى الدرداء، وبه قال عكرمة وقتادة.
وأصل كنز مصدر استعمل بمعنى مكنوز ولا يخفى أنه حل لمن تقدم الكنز، وأنه حرم علينا، وهو من حلال لأن أباهما كما وصفه الله صالح، والمذموم من الكنوز ما لم تؤد منه الحقوق، وقد قيل: إنه لا يقال لما أديت منه كنز شرعًا قال صلى الله عليه وسلم:
"كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز" فنقول: المراد هو الكنز المذموم فى براءة، وما أديت منه فليس كنزاً مذمومًا، بل كنز حلال، ومن قال الكنز حرام مطلقًا قال إنه حلال من قبلنا إن كنا نؤدى حقوقه.
روى الطبرانى، عن أبى الدرداء: أُحلت لهم الكنوز، وحُرِّمت عليهم الغنائم، وأُحلت لنا الغنائم وحُرِّمت علينا الكنوز، ومثله لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، عن قتادة قد يعجبنّ الرجل فيقول: ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحُرِّم علينا فإن الله تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء، وهى السنن والفرائض، تحل لأمة وتحرم على أُخرى، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه ما كان من ذهب ولا فضة، ولكنه كان صحف علم.
وروى هذا أيضاً عن ابن جبير، وأخرج ابن مردويه من حديث علىّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبزار على أبى ذَرّ كذلك، والخرائطى عن ابن عباس موقوفًا أنه كان لوحاً من ذهب مكتوبًا فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إِله إِلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب فى الوجه منه: بسم الله الرحمن الرحيم عجبت إلخ، وفى وجه: أنا الله لا إله إلا أنا وحدى لا شريك لى، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير، وأجريته على يديه، وويل لمن خلقته للشر، وأجريته على يديه ولا يجمع بأن الكنز كان ذلك كله، لأنه خلاف الظاهر، ولأن ابن عباس قال: ما هو من ذهب ولا فضة.
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } اسمه كاشح، وأمهما دهنا، وقيل: ليس بالأب الأدنى، بل العاشر وعن جعفر الصادق: والأب السابع، وأفادت الآية على الأقوال أن صلاح الآباء يفيد العناية بالإبناء وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد فى الزهد، وابن أبى حاتم عن خيثمة أنه قال عيسى عليه السلام: طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم، كيف يحفظون من بعده، وتلا خيثمة هذه الآية.
وعن وهب أن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس، ويروى أن من صلاحه السياحة، ووضع الناس أمانتهم عنده فيردها كما هى، وغير ذلك من أعمال الصلاح.
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ } مالكك ومدبرك، نبهه على وجوب الانقياد، وعدم المناقشة فى أمر الله، وعاتبه على ذلك، ولذلك لم يقل وأراد ربنا.
{ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } قوتهما بالبلوغ وكمال العقل، وهو ما بين ثمانى عشرة وثلاثين، وهو مفرد بوزن الجمع، مثل إِنك ولا ثالث لهما، وإِن شئت فقل جمع لا واحد له من لفظه، بمعنى قوتهما، ومعنى قول سيبويه جمع شدة أنه بمعنى قوة يقال: بلغ الغلام شدته أى قوته، فمراده أنه جمع على غير قياس، لأن فعلة لا يجمع على أفعل، وقيل: جمع شد ككلب وأكلب، والمراد أن القياس ذلك، ولم يرد أن شد أورد بمعنى القوة كما يقال: أبابيل جمع أبول أو أبيل أو أبال، مع أنه لم تسمع هذه المفردات، والمراد أن القياس أن يكون مفردات له.
{ وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا } من تحت الجدار، ولو انقض قبل ذلك لظهر الكنز، وأخذه غير أهله قهراً أو سرقة، ولو أخذه اليتيمان قبل أشدهما لضيعاه، وكان وصيهما عالما به، لكنه غاب هذا على موسى إذ قال إقامة هذا الجدار بدون أن تطلب إِليها فضول وتبرع على من حرمونا.
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } النصب على التعليل لأراد، لا يستخرجا لعدم اتحاد الفاعل، لأن الراحم الله والمستخرجين غيره إلا عند من لم يشترط الاتحاد، أو رحمة من المبنى للمفعول، فيكون الاتحاد بين النائب والألف إذ هما لهما، لأنهما المستخرجان المرحومان أيضا، وأجيز أن يكون حالا من ألف يستخرجان بتأويل مرحومين، أو تعليلا لمحذوف على حذف مضاف، أى فعله ذلك إِرادة رحمة من ربك، أو رجاء رحمة من ربك.
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } أى عن رأيى، وقد يلد على أنه نبى أى ما فعلته عن أمرى، بل عن وحى.
{ ذَلِكَ } أى ما ذكر من العواقب، أو من البيان { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } تستطع حذفت التاء تخفيفا بحذف أحد المتقاربين التاء والطاء فى آخر الكلام، كما أن العياء قد لحقهما بالعتاب، وكما أن موسى يفارق الخضر وبقى الخضر منفرداً، كما بقيت الطاء، ولم يكن ذلك فى الأول لعدم موجب التخفيف وهو العياء، وإنما حصل التكرير بالأخير، فخفف ولا يخفف لفظ ذلك عن هذا فيقال: ذلك، خفف استطاع بحذف التاء تلويحا بأن موسى قد خف ما ثقل عليه ببيان الخضر، أو حذفت كما يصغر الاسم أو يرخم للترحم، ولعظمها أشار بالعبد، وهنا أنجز الموعود، وفذلكه لما مر.
قيل أضمر فى خشينا لما فرق الواحد تلويحا أو تخفيفا، لأن الأبوين كرها معه، أو جمع نفسه مع الله بمعنى كرهنا، أو مع الله والوالدين، وفى ذلك جمع الله وغيره فى ضمير، وهو لا يجوز، فإنه لما قال الخطيب من العرب بين يديه صلى الله عليه وسلم: من يطع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، قال صلى الله عليه وسلم:
"بئس الخطيب أنت" أى لجمع الله تعالى ورسوله فى ضمير يعصهما، ويقال قد ورد فى القرآن فى قوله تعالى: " { إن الله وملائكته يصلون على النبى } "[الأحزاب: 56] ويحتمل الحذف أى إن الله يصلى وملائكته يصلون، وفى قوله صلى الله عليه وسلم فى الإيمان: "أن يكون الله ورسوله أحب إِليه مما سواهما" بجمع الله ورسوله فى المستتر فى أحب وفى الهاء من سواهما، فالجمع جائز لوروده.
وقيل: لعله قال بئس لوقفه على بعضهما ويرده لفظ مسلم وأبى داود والنسائى عن عدى بن حاتم رضى الله عنه: "بئس خطيب القوم أنت قل ومَن يعص الله ورسوله" وقال الخطابى: يكره الجمع ولا يحرم، وكلام الغزالى يشير إِلى التحريم، وعلى الكراهة فقد تكره فى مقام تلك الخطبة المذكورة، لأنها بحضرة المشركين، والإسلام غض طرى، ولا تكره فى مقام حيث لا محذور ككلام الخضر.
وخص بعضهم الكراهة بغير النبى صلى الله عليه وسلم، فتجوز فى القرآن بالأولى، وفى شروح البخارى جوازه فى كلام الله ورسوله، وكراهته فى غيره فى مقام دون مقام، والله أعلم، وهذا المختار.