التفاسير

< >
عرض

فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
-مريم

تيسير التفسير

{ فكلى } من الرطب { واشربى } من السرى وهذا هو الظاهر، وقيل اشربى من عصير الرطب، وكان فى غاية الطراوة، وفيه أنه لا ذكر فى الآية للعصر، وقدم ذكر وجود الماء، وأحضره لأن الماء أشرح للنفس، ولا سيما الجارية، والاهتمام به أشد وهو للتنظيف والشرب معاً وأخر الشرب عن الأكل لاعتياد ذلك، وليتصل الأكل بلفظ المأكول وهو الرطب، وأمرها بالأكل والشرب للوجوب بمعنى أن الله عز وجل قضى حياتها وحياة ولدها وقوتهما بالأكل والشرب وهو الأصل، وكيف تترى ضيافة الله، وقيل إباحة، وقيل باحتمال الوجوب والندب.
{ وقرى عيناً } هذا أمر الوجوب، لكن ليس على ظاهرة لأن قوة العين ضرورية لا كسبية، بل باعتبار ما أريد بها، وهو ترك الحزن، كأنه قيل التركى الحزن إلى الانشراح، فلا يتكرر مع قوله:
" { ألاَّ تحزنى } " [مريم: 24] وهو المراد، إلا أن دمعة الحزن حارة، والعين حارة عنده، ودمعة الفرح باردة، بمعنى أنها ليست حارة، فعبر عنها بالقر وهو البرد، ويجوز تفسير قرى باسكنى عن الاضطراب بالضيق أمرها بالسكون وترك الحزن، كما روى أن عيسى السلام قال: لا تحزنى، فقالت: كيف لا أحزن وأنت معى، ولست ذات زوج ولا مملوكة، فما عذرى عند الناس؟ فقال لها: اسكتى وأتكلم عنك، كما قال الله جل وعلا:
{ فإِمَّا ترينَّ من البَشَر أحداً } إما إن الشرطية وما الموعدة { فقولى } له إن كلمك وأراد جواباً { إِنِّى نذرتُ } وعدت، فالنذر يكون بلا شرط، كما يكون الوعد بلا شرط { للرحمن صوماً } لا تتنصرى لنفسك فتتعبى، أنا أجيب عك السفهاء، وفيه أن السكوت عن السفيه مأمور به مؤكد، حتى قيل: واجب وايضا الله يجيب عنها، وأجاب عنها عيسى، وذلك أقوى من أن تجيب هى، أو لما أذعنت للصمت أنطق الله لها عيسى مجيباً عنها، وصوماً إمساكا عن الكلام، أو عنه وعن المفطرات، وكانوا إذا أرادوا التقرب إلى الله تعالى لم يتكلموا يومهم، أو إلى العشى، ولو بلا صوم، ويعتبرون ذلك عبادة عظيمة، وكانوا لا يتكلمون فى صيامهم، ونسخ فى شرعنا، فمن نذره لم يجز له الوفاءَ به.
دخل الصديق رضى الله عنه على امرأة نذرت أن لا تتكلم، فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمى، ولا دليل على اختصاص مريم به.
فى رواية حارثة بن مضرب: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، ثم جلسا فقالوا: ما لصاحبك لم يسلم؟ فقال نذر صوماً لا يكلم اليوم إنسياً، فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة يعنى مريم، قالت ذلك ليكون عذراً لها إذا سئلت فتكلم وأمر بالمعروف، وأنه عن المنكر خير لك، وخصها بالذكر لأنها التى علم منها ذلك فى القرآن، ولعل الرجل أتى قبل الذى سلم بحيث لا يكفى أحدهما عن الآخر، وإلا لم ينتظر منه السلام.
سلام الواحد يكفى عن غيره أو أرادوا بسلامه مطلق الكلام، لما رأوه ساكتاً وتبادر إلى الأفهام أنها نذرت الصوم من قبل بأمر الله عز وجل، وأنه أباح الله عز وجل أن تتكلم بهذا الإخبار، ثم لا تتكلم أو أن تخبر بالإشارة، واستظهره بعض.
وعن الفراء: الكلام يصدق بكل ما يفهم به إلا إذا أكد بالمصدر، فباللسان نحو كلمته تكليماً، لأن المجاز لا يؤكد، وإطلاق الكلام على غير النطق مجاز، وعلى كل حال لم يكن هنا إلا أمرها بالإخبار بالنذر، وليس فيه إخبار به، بل الإخبار به فى قوله:
" { فأشارت إليه } " [مريم: 29] فهو بالإشارة.
{ فلن أكلِّم اليوم } كل يوم كلموها فيه قالت: لن أكلم اليوم، أو أرادت باليوم كل زمان كلموها فيه { إِنسياً } تأكيداً لنذر الصوم، وزيادة بيان، ويحتمل أنها نذرت من حين قولها إنى نذرت الخ لا أكلم اليوم إنسبباً، بل ربى والملك، أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، وللاكتفاء بنص عيسى عليه السلام.